• يوليو 1, 2025

الأسس الخاطئة للماركسية وتضليل الشعوب

كارل ماركس، الذي يقف إرثه نظريًا خلف شريحة واسعة من السياسات العامة والخطابات السائدة، كان مخطئًا من الأساس.

خطأ ماركس لا يكمن في التفاصيل الدقيقة لتحليله، بل في جوهر نظريته ذاتها. لقد تخيّل عالمًا يُدرك فيه العمّال تلقائيًا “اضطهادهم”، وينظمون صفوفهم، ثم يُسقطون النظام الرأسمالي. ولكن الأمر لا يتعدّى كونه خيالًا. فالاعتقاد بأن العمّال، فقط بسبب سوء ظروفهم المادية، سيتحولون تلقائيًا إلى ثوار، يظل واحد من أكثر أوهام الماركسية رسوخًا. فالواقع يُظهر أن معظم العمّال لا يحلمون بتدمير الرأسمالية، بل إنهم في الحقيقة، وبحق، يحلمون بالتقدم داخل هذا النظام، ويطمح بعضهم حتى إلى أن يصبحوا رأسماليين بأنفسهم.

الوعي الزائف

كما يلاحظ الأمير ماشيل، فإن ماركس يغفل عن بديهة بسيطة: الوظيفة في المصنع لا تولّد وعيًا ثوريًا. هذا الوعي يجب أن يُلقّن، ويُزرع، وأحيانًا يُفرض فرضًا. وهنا ننتقل إلى فلاديمير لينين، الرجل الذي حاول إنقاذ نظرية ماركس من السقوط في غياهب النسيان، دون أن يعترف صراحةً بفشلها.

في هذا السياق, يقدّم لينين مفهوم “حزب الطليعة”) أو” حركة الطليعة الثورية”(، وهي حركة تقودها نخبة منظمة بإحكام، مكلفة بجلب النظرية الثورية إلى عامة الجماهير. فالطبقة العاملة، إن تُركت لشأنها، ستبقى حبيسة ما سمّاه بـ”وعي النقابات”، والذي يتمثل في النضال من أجل تحسين الظروف داخل النظام الرأسمالي بدلاً من السعي للإطاحة به. هذا ما عُرف لاحقًا بـ”الوعي الزائف”، أو كما طوّره الماركسيون الجدد إلى مفهوم “الهيمنة الثقافية“.

نبوءة تتحقق ذاتيًا

وهنا تتجلّى إحدى أكبر مفارقات التاريخ الماركسي. فـ”الثورات العمالية” المزعومة لم تكن – في أغلبها – بقيادة العمّال، بل بقيادة نخبة من المثقفين تدّعي التحدث باسمهم. هذه النخبة لا تأتي من لا تنحدر من الحقول أو ورش المصانع، ولا تتسلح بخبرة التجربة المعيشة، بل تكتفي بالشعارات الرنانة والبيانات الفضفاضة. وهي تؤمن بأن قراءتها لكتاب مثل رأس المال نص مثل «رأس المال» يمنحها تفويضًا شرعيا للقيادة لقيادة الجماهير. وعند الاستيلاء على السلطة، لا تكون الطبقة العاملة هي من يحكم، بل تلك النخبة المثقفة ذاتها التي تتولى مقاليد الأمور. فـ”ثورة الشعب” سرعان ما تتحول إلى “قمع الشعب”، ويجد العامل نفسه تحت ديكتاتورية رفاقه. ما بدأ كنداء من أجل العدالة ينتهي بطغيان جديد.

يجب أن يكون هذا التحول إشارة تحذيرية لكل من لا يزال متمسكًا بالأرثوذكسية الماركسية. فالماركسية، في جوهرها، نبوءة تحقق ذاتها، لكنها لا تقدم لنا فهمًا حقيقيًا للواقع السياسي والاقتصادي.

المادية التاريخية

لكن الخلل في الماركسية أعمق من ذلك. فالإطار التاريخي الكامل لنظرية ماركس – أي المادية التاريخية – يقوم على فرضية أكثر جمودًا: الاعتقاد بأن الظروف المادية هي المحرّك الوحيد لتاريخ البشرية. أما ما عدا ذلك – من ثقافة ودين وأفكار وهوية – فإما ثانوي، أو مُشتق، أو أسوأ من ذلك: تشتيت عن “النضال الحقيقي”. إنها الحتمية الاقتصادية متنكرة في ثوب العلم.

هذا التصور ينتج عن الطابع الثيولوجيي (الغائي) للماركسية، أي الفكرة القائلة بأن التاريخ يتطور عبر مراحل محددة سلفًا ويبلغ ذروته حتمًا في الشيوعية. فالتاريخ، وفقًا لهذه الرؤية، لم يعد نتاجًا للصدف والإرادة الإنسانية، بل يتحرك آليًا كأنه حزام ناقل ينقل الجميع كركاب عاجزين عن التحكم في وجهته. لكن من يدرس التاريخ بجدية يدرك أنه لا يقبل هذا التصنيف التبسيطي. التاريخ مليء بالتراجعات والتناقضات والمفاجآت. إنه لا يتشكل فقط بفعل القوى المادية، بل أيضًا بفعل التعقيد غير القابل للتنبؤ والفوضوي للطبيعة البشرية. كتب ماركس نظريته في خضم الثورة الصناعية، افترض أن ظروف أوروبا في القرن التاسع عشر ستؤدي بشكل طبيعي إلى النتائج التي تنبأ بها.

الرأسمالية الحرة

غير أن الرأسمالية – أي السوق حين يتحرّر من نزوات السياسة – لا يبقى ساكنًا. بل يتكيّف ويعيد تشكيل نفسه استجابةً للضغوط. لم تكن الثورة هي التي غيّرت النظام، بل الإصلاح والتجريب. وغالبًا ما يُحتفى بدولة الرفاه ويُنظر إليها من قبل البعض على أنها انتصار ماركسي، لكن هذا تبسيط لطبيعتها. فثمة من يرى أنها لم تنشأ رفضًا للرأسمالية، بل محاولةً لاستقرارها والحفاظ عليها. ورغم ما تحمله من تناقضات مع المبادئ الأساسية للنظام الرأسمالي، إلا أنها تكشف عن قدرة هذا النظام على تكييف آلياته والاستمرار دون الانزلاق نحو الاستبداد الكامل.

وهذه – بلا شك – من أبرز خصائص هذا النظام: قدرته على الانحناء دون الانكسار، وعلى التعلّم واستيعاب منتقديه. ففي حين تتطلب الماركسية النقاء الأيديولوجي، تزدهر الرأسمالية على الارتجال والتجديد.

فما الذي تبقّى من رؤية ماركس؟

نظرية تسيء فهم الطبيعة البشرية، وتبسط التاريخ بشكل مفرط، وتحتاج إلى وكلاء فكريين لفرضها قسرًا حتى تظل ذات صلة. تدّعي أنها ديمقراطية، لكنها تعتمد على تدخل النخب. تعد بالتحرر، لكنها تخلّف وراءها القَسر والإكراه. تدّعي الحتمية، لكنها لا تتحقق إلا عبر الإكراه من السلطة الأعلى. كان ماركس يعتقد أن للتاريخ وجهة محددة. لكن إذا كان هناك ما يقال، فهو أن التاريخ قد سَخِر منه.

 

بقلم أياندا ساخيلي زولو – كاتب وباحث مستقل

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

Read Previous

الرأسمالية المحابية واقتصاد الكذابين

Read Next

السوق الحر والمنافسة