• يوليو 1, 2025

لماذا تخلى “اقتصاد التنمية” عن الفقراء؟

منذ ما يفوق عقدا من الزمن، خلق كتاب ويليام إسترلي المعنون “بحث بعيد المنال عن النمو” ضجة بين الاقتصاديين. لقد أكد إيسترلي، وهو خبير اقتصادي سابق في البنك الدولي، أن جل الحلول التي وضعت لمواجهة مشكل التخلف، والتي تمول بالمساعدات لم تحقق النتائج المتوقعة….

منذ ما يفوق عقدا من الزمن، خلق كتاب ويليام إسترلي المعنون “بحث بعيد المنال عن النمو” ضجة بين الاقتصاديين. لقد أكد إيسترلي، وهو خبير اقتصادي سابق في البنك الدولي، أن جل الحلول التي وضعت لمواجهة مشكل التخلف، والتي تمول بالمساعدات (الاستثمار في البنية التحتية، والتعليم، والصناعة) لم تحقق النتائج المتوقعة. لأنه في الواقع، تنتج التنمية الاقتصادية عن طريق مؤسسات تؤطر السوق والسياسة.

يتفق معظم الاقتصاديين حول الرأي الذي يذهب إلى أن التنمية الاقتصادية على مستوى الأمد البعيد إنما هي نتيجة كامنة في دور المؤسسات، وحكم القانون واحترام الحقوق الفردية. فبينما طورت بعض الإصدارات الحديثة، مثل دراسات دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون (لماذا تفشل الأمم، 2012)، مقاربات مؤسساتية لتفسير مسلسل التنمية، فإن قليلين فقط هم أولئك الذين كانوا على استعداد لقبول النتائج العملية للمقاربات المؤسساية. لكن الكتاب الأخير لويليام إيسترلي، المعنون ب “طغيان الخبراء”، قام بنهج هذه المقاربة المؤسساتية. لا توجد حلول معجزة لمشاكل الفقر والتخلف الاقتصادي. لكن عوض محاولة البحث عن تحقيق معجزات، لا يتوجب على صناع القرار، بكل بساطة، إلا احترام حقوق الأفراد، بما في ذلك حقوق الأفراد الفقراء.

يعرض الجزء الأول من هذا الكتاب التاريخ الفكري لاقتصاد التنمية على ضوء مقاربتين متضادتين، في شخصي اقتصاديين حاصلين معا على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1974: غونار ميردال وفريدريك فون هايك. يعد ميردال ممثل المقاربة الحكومية (السلطوية) في مجال التنمية الاقتصادية، المقاربة التي ترمز للفعل “من أعلى”، المقاربة التكنوقراطية، تلك التي تتصور أن التنمية عبارة عن “هندسة اجتماعية”، و”تحليل فني بحت لمسألة السياسة الاجتماعية”. بينما في المقابل، صنع فريدريك فون هايك سمعته من خلال دراسة الخصائص الإبستيمية للأسواق. فالأسواق والأشكال المركبة من التعاون الاجتماعي، حسبه، تشكل وسائل لتعبئة المعارف التي لم تكن متاحة لأي شخص في مجملها. ففي نظر هايك، تعد التنمية الاقتصادية نتيجة لمسلسل يستغل من خلاله الأفراد المعارف المتناثرة بينهم عن طريق وضعها في خدمة أهداف ذات منفعة من الناحية الاجتماعية، وليست التنمية نتيجة سياسات تقويمية بارعة.

لم تحدث وجهة نظر هايك إلا صدى قليلا لدى خبراء اقتصاد التنمية. إذ لو تم قبول أفكاره، فإن ذلك سيتركهم أمام عمل قليل للقيام به. ففي أواخر أربعينات القرن الماضي، طغت النظرة التي تعطي دورا كبيرا للخبراء الاقتصاديين ولقدرتهم على تغيير سياسات اقتصادية بشكل إرادي على اقتصاد التنمية. لكن سياسة “اللوحة البيضاء” في مجال التنمية هذه لم تأت من العدم. ففي الفصل الثاني من الكتاب يسرد إيسترلي بدايات تاريخ وسياسة اقتصاد التنمية.

في بداياته، غالبا ما ارتبط “اقتصاد التنمية” بالاستعمار والأحكام العنصرية المسبقة. ففي مناقشات ثلاثينات القرن العشرين، تم تبرير التواجد الاستعماري البريطاني في إفريقيا بأسطوانة تحقيق التنمية الاقتصادية. وبعد قانون الهجرة الصادر سنة 1924 الذي يستثني الأسيويين من التجنيس في الولايات المتحدة الأمريكية، تم النظر إلى مخططات التنمية التي قادها خبراء صينيون من طرف كثيرين كوسيلة “علمية” و”محايدة” لتخفيف التوترات العرقية التي تسببت فيها القيود الجديدة في مجال الهجرة.

ولما تم تحويل الانتباه من القضايا السياسية إلى القضايا التقنية، استدعت المقاربة “من أعلى” مستبدين مثل تشيانغ كاي تشيك في الصين، فضلا عن مجموعة من الاقتصاديين الطموحين. إن “الوضعية السياسية الرهيبة في الصين يبدو أنها في حد ذاتها تشكل معرقلا كبيرا للتنمية. فكل شخص متورط في هذه السياسة يجب أن يعتبر جزءا من المشكل، وليس طرفا في الحل” يؤكد ويليام إسترلي. وتبعا لذلك، “فلقد سمحت العقلية التكنوقراطية للاقتصاديين الصينيين بتقديم أنفسهم كخبراء محايدين، من دون مرجعية سياسية”. هذه السابقة فتحت الطريق أمام “الحياد السياسي” للبنك الدولي وعدد من وكالات التنمية الأخرى، مما سمح لهم بتقديم مساعدات من أجل التنمية لأسباب تقنية صرفة لأنظمة بغيضة في بعض البلدن السائرة في طريق النمو، وهو أمر اعتبر ورقة رابحة للولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة.

لكن هل يجب علينا أن نتخلص من مجمل “اقتصاد التنمية” القديم؟ الجواب يتضمنه الفصل الثالث والفصل الرابع من الكتاب، الذي يجيب بشكل مدوي “نعم”. إن النهج التكنوقراطي يتجاهل الدور الذي تلعبه السياسة، والمؤسسات والثقافة. رغم أن، عددا كبيرا من الأدلة تؤكد أن الفقر يرتبط بالاستبداد والقيم الجماعاتية. ليس من المبالغ في شيء إذن أن نقول أن المساعدات الغربية التي تقدم “لحكم اللصوص” يشكل عقبة أمام التنمية.

ومن الأمثلة الأخرى، يذكر إيسترلي حالة إثيوبيا. التي رحب بيل غيتس وتوني بلير بانخفاض معدل الوفيات فيها بحوالي 59% بين عامي 1990 و2010، باعتباره انتصارا يستند على “تحديد أهداف واضحة، واختيار نهج معين، وتحقيق النتائج في المحصلة”. لقد أدى الهوس بالتجربة الإثيوبية لتدفق المساعدات، التي استخدمها االديكتاتور ميليس زيناوي لأهداف سياسية. يتضمن ذلك مثلا ممارسة الابتزاز في توزيع المساعدات الغذائية “عن طريق تجويع الفلاحين ليدفعهم لمساندة نظامه السياسي، ومعاقبة مؤيدي المعارضة بحرمانهم من الدعم الغذائي الذي يقدمه المانحون”.

تحدث إيسترلي أيضا عن الهجرة على المستوى الدولي، التي تعكس إلى أي مدى تخلى “اقتصاد التنمية” عن الفقراء وعن حقوقهم. إذ رغم الأدلة القوية التي تبين أن الهجرة تعد واحدا من “البرامج” المضادة للفقر الأكثر فعالية في كل الأزمنة (على سبيل المثال، 82% من الأشخاص غير الفقراء الهايتيين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية)، فإن جماعة “اقتصاد التنمية” ترى في الهجرة مشكلا أكثر من كونها حلا. والسبب، حسب إيسترلي، هو أن تخفيض الفقر عن طريق اختيار الأفراد مغادرة البلدان تتمتع بأهمية قليلة لدى عقول تركز حصرا على خلق التنمية داخل أراضي كل دولة.

إن استخدام الدول –ضد الأفراد- كوحدات في التحليل يتوفر على أسس ضعيفة في العلوم الاجتماعية. لكن في أوساط خبراء التنمية، النتائج الاقتصادية الجيدة تسند دائما تقريبا لسياسات وطنية ذكية. إلا أنه، حسب مقال وليام استرلي، الذي أصبح الآن من الكلاسيكيات، والذي كتبه باشتراك مع لاري سومرز ومايكل كريمر ولان بريتشيت، فإن الاختلاف في السياسات بين الدول لا يفسر الفوارق في التنمية الاقتصادية بين الدول على المدى البعيد.

إذا كانت التنمية الاقتصادية بواسطة الطرق التقليدية تعتريها عيوب قاتلة، كما يعتقد ذلك ويليام إيسترلي، فما هو البديل إذن؟ إنه اتباع هايك بدل ميردال، باستعمال الأسواق، والابتكار التكنولوجي، والمسؤولية السياسية، لخلق، واختبار، وتطوير حلول لمواجهة الفقر والتخلف الاقتصادي. بعد كل هذا، إن النجاحات الاقتصادية الكبرى، بما في ذلك نهضة الغرب وأجزاء كبرى من القارة الأسيوية، تمت تغذيتها عن طريق مسلسل التجربة/الخطأ وبواسطة التدمير الخلاق الذي صاغه جوزيف شومبيتر.

“طغيان الخبراء” كتاب مثير يحمل رسالة مهمة. بدلا من البحث عبثا عن حلول تقنية، فقد حان الوقت أن تتحول جماعة “اقتصاد التنمية” إلى متحدثين باسم الحرية الاقتصادية والحرية الفردية والحرية السياسية في البلدان السائرة في طريق النمو.

Read Previous

نحو تأويل حداثي للتراث، في أفق مجتمع إنساني ينبذ التعصب

Read Next

السمات العامة للمجتمع القبلي التقليدي العربي