سلكت الصين والهند طريقين مختلفين جذريًا نحو النجاح الاقتصادي. ففي الصين، نفذت الديكتاتورية رؤيتها الاستراتيجية بقبضة من حديد. أما في الهند، فقد تنوعت السياسات بتنوع الأحزاب، مما جعل من شبه المستحيل بلورة رؤية وطنية واحدة، حتى لو رغب الشعب بها. ومع ذلك، أنتجت هذه “اللاستراتيجية” نموًا سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 9% على مدى خمس سنوات.
ثورة بلا تخطيط مركزي
بدأ كل شيء بإصلاحات 1991 الاقتصادية التي ألغت نظام التراخيص الصناعية، وقلصت من قبضة الدولة والعديد من القيود الأخرى، كما تم تخفيض دور التخطيط المركزي ليصبح مجرد تخطيط استرشادي. وقد أتاح التحرير الاقتصادي، إلى جانب الاستثمار في بنية تحتية جديدة — وفرت الاتصال الضروري للعولمة — مليون مسار ممكن بدلًا من المسار المخطط الوحيد. والباقي تولته روح المبادرة رواد الأعمال.
ففي أقل من عقدين، أصبحت الهند قوة عالمية في مجالات البرمجيات، وخدمات التعهيد، والبحث والتطوير، والتصنيع عالي التقنية. والغريب أن أياً من هذه القطاعات لم يكن ضمن أولويات المخططين السابقين، بل إنهم لم يتصوروا يومًا أن الهند يمكن أن تتفوق على العالم في هذه المجالات.
البرمجيات: من الحظر إلى الريادة
وكانت صناعة البرمجيات، التي تُعد أشهر صادرات الهند مكبلة بقيود الدولة لعقود. ففي الثمانينيات، استغرقت شركة “إنفوسيس”، — التي أصبحت لاحقًا من أبرز مصدّري البرمجيات — عامين كاملين للحصول على خط هاتف وترخيص لاستيراد حاسوب. بل إن السياسيين والنقابات كانوا يعارضون إدخال الحواسيب بدعوى تهديدها للوظائف.
وبما أن الاقتصاد لم يكن مُمَكّنًا رقميًا، لم يتمكن المهندسون الهنود من تطوير المهارات اللازمة للمنافسة. لكنهم وجدوا فرصتهم في وادي السيليكون، حيث اكتسبوا الخبرة، تعلموا أصول المهنة، ثم عادوا إلى الهند حاملين مهارات جديدة وأسسوا شركات عالمية. كان هذا نجاحًا غير مخطط له، ناتجًا عن “لا استراتيجية”.
ثورة الخدمات والتعهيد: مفاجأة غير متوقعة
لم يتخيل أي مخطط أن مئات الشركات الأجنبية ستنقل خدماتها الخلفية والتقنية إلى الهند. بدأت القصة كتجربة من فرع شركة “جنرال إلكتريك” في الهند بهدف تقليص التكاليف، فتحولت إلى نموذج ناجح تبنته كبرى الشركات متعددة الجنسيات. وخلال هذا المسار، اكتشفت الشركات الأجنبية أن الهند ليست فقط بلدًا منخفض التكاليف، بل موطنًا لمهارات غير مستغلة في كل شيء من الهندسة والطب إلى الخدمات القانونية والمحاسبية. حتى وكالات التصنيف الائتماني مثل “موديز” و”ستاندرد آند بورز” نقلت جزءًا من عمليات التقييم الخاصة بها إلى الهند.
الهند مركزًا عالميًا للبحث والتطوير
توفر العمالة ذات المهارات العالية حوّل الهند أيضًا إلى مركز عالمي للبحث والتطوير، مما جذب شركات مثل جنرال إلكتريك، وسوزوكي، وإنتل، وآي بي إم، ومايكروسوفت. بل إن رينو-نيسان دخلت في شراكة مع شركة “باجاج”، المتخصصة في الدراجات النارية في الهند، لتصنيع سيارة صغيرة. والمذهل في الأمر أن رينو-نيسان أوكلت مهمة البحث والتطوير بالكامل إلى “باجاج”
القيود تحفز الابتكار: صناعة الأدوية والسيارات
كان معظم الخبراء يعتقدون أن الهند ستتبع استراتيجية تصدير تعتمد على اليد العاملة الرخيصة، كما فعلت دول شرق وجنوب شرق آسيا مثل الصين وفيتنام. لكن، وللأسف، قوانين العمل الصارمة جعلت ذلك محفوفًا بالمخاطر. وبدلاً من ذلك، وبشكل مفاجئ للجميع، تفوقت الهند في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة مثل صناعة السيارات والأدوية. فكل شركات الأدوية الكبرى في الهند أصبحت الآن عابرة للحدود، وتقوم بعمليات استحواذ على شركات في أنحاء مختلفة من العالم. ومع أن الحكومة كانت تعارض تاريخيًا قوانين براءات الاختراع، لكن انضمام الهند لمنظمة التجارة العالمية عام 1995 أجبرها على قبولها. في البداية، خافت شركات الأدوية الهندية من أن يؤدي ذلك إلى القضاء عليها، لكنها سرعان ما وجدت في العولمة فرصة وليست تهديدًا. لقد كانت نهاية “استراتيجية الدولة” في قطاع الأدوية هي بداية نجاح تجاري عالمي.
أما في صناعة السيارات، فقد أثبت المهندسون ومصنعو القطع الهنود قدرتهم على الابتكار بسرعة وبتكلفة منخفضة. ففي حين تستغرق الشركات الأمريكية ثلاثة أشهر للانتقال من فكرة جديدة إلى نموذج أولي ثم إلى الإنتاج التجاري، تستطيع شركة “بهارات فورج” القيام بذلك في شهر واحد فقط، مما ساعدها على أن تصبح ثاني أكبر مصنع في العالم لقطع غيار السيارات مثل المحاور وكتل المحرك.
من الحماية إلى الهيمنة العالمية
عندما انفتحت الاقتصاد الهندي في عام 1991، ظن كثيرون أن الشركات الهندية ستُبتلع أو تنهار أمام الشركات متعددة الجنسيات. لكن أحدًا لم يتخيل أن “تاتا ستيل” ستستحوذ على “كوروس” البريطانية، التي كانت تفوقها حجمًا بست مرات، أو أن “تاتا موتورز” ستشتري “جاجوار” و”لاند روفر”، أو أن “هيندالكو” الرائدة في المعادن غير الحديدية، ستستحوذ على “نوفليس“.
المفاجئ أكثر هو أن شركات هندية صغيرة تمكنت من “ابتلاع” شركات أجنبية عملاقة من خلال اقتراض هائل من الخارج. في حين، وحتى وقت قريب، كان الحصول على قروض خارجية بهذا الحجم محظورًا بموجب قواعد تهدف إلى منع الديون الخارجية غير المسؤولة. لكن لم يدرك أي مخطط أن هذا الحظر كان يمنع أيضًا عمليات الاستحواذ الهندية على عمالقة عالميين.
النجاح يولد من حيث لا يتوقع أحد
في الثمانينيات، كان سونيل ميتال مجرد تاجر صغير يستورد المولدات الكهربائية المحمولة. وحين حظرت الحكومة استيرادها، انتقل إلى إنتاج الهواتف بزر الضغط. لم يكن أحد – ولا حتى ميتال نفسه – يتوقع صعوده الصاروخي ليصبح لاحقًا إمبراطور قطاع الهواتف المحمولة في الهند. شركته “بهارتي إيرتيل” تُقدّر اليوم قيمتها بأكثر من 40 مليار دولار، وتغزو الأسواق العالمية.
لا استراتيجية… أفضل استراتيجية؟
يرى العديد من المحللين، ومنهم تارون خانا من كلية هارفارد للأعمال، أن نجاح الصين نابع بشكل كبير من تدخل الحكومة، في حين أن نجاح الهند مدفوع أساسًا بالمبادرات الخاصة. حتى الآن، شهدت الصين نموًا اقتصاديًا أكبر، لكن من المحتمل أن تكون الهند في وضع أفضل على المدى الطويل. فرُبّما، بمرور الوقت، لا توجد استراتيجية نمو أفضل من غياب أي استراتيجية على الإطلاق.
بقلم سواميناثان آييار، زميل أبحاث في مركز الحرية والازدهار العالمي
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.