في أوائل القرن العشرين، وخاصة خلال ثلاثينياته، هيمنت الإيديولوجيات الجماعية على الساحة الفكرية والسياسية في كثير من دول أوروبا. تلك الأفكار، التي دعت إلى تحكّم الدولة القوي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مهّدت الطريق لصعود النازية في ألمانيا. كان كثير من المثقفين مدفوعين بنيّة صادقة لبناء مجتمع أكثر عدلًا من خلال التخطيط المركزي، لكنهم فشلوا في إدراك المخاطر الكامنة في هذا النمط من التفكير. وفي كتابه الشهير“الطريق إلى العبودية”، حذّر فريدريش هايك من أن أكثر الخطط نُبلاً قد تقود، تدريجيًا، إلى تقويض الحريات وصعود الاستبداد.
سحر المثاليات المجردة
لا ينجذب المثقفون إلى الأفكار الخطرة بسوء النية، بل غالباً بدافع جاذبية المثل العليا المجردة التي لا تُقاوَم أخلاقيًا. وكما لاحظ فريدريش هايك: “ما يستهوي المثقف هو الرؤى الشاملة، والتعميمات الخادعة، والمخططات الكلية لإعادة تنظيم المجتمع بأسره.” إنهم يُفتنون بالنظرية، لا بالتطبيق العملي ولا بالواقع. أناقة الفكرة أهم لديهم من مدى فعاليتها.
فالاشتراكية، بلغة العدالة والمساواة التي تتحدث بها، تقدم سرداً بسيطاً ومشحوناً أخلاقياً لأولئك الذين يتحركون في عالم الأفكار لا في عالم الأسواق. إنها تمنحهم قضية، ولغة أخلاقية، وإحساساً بالتفوق الأخلاقي. إنهم لا يفكرون فحسب؛ بل يعتقدون أنهم يُنقذون العالم.
لكن هناك ما هو أعمق من ذلك: وهو شعور بالاغتراب. كثير من المثقفين يشعرون بالانفصال عن عالم يُكافئ النفعية على حساب الذكاء. في مثل هذا العالم، حيث السوق يثمّن النتائج أكثر من الأفكار، يتراكم الاستياء. ويغدو التخطيط المركزي وكأنه الترياق للفوضى المفترضة، إذ يمنحهم إحساسًا بالنظام والغاية. وقد أدرك هايك هذه النقطة بوضوح، إذ قال إن “الجرأة على أن تكون طوباويًا” هي ما جعل الاشتراكية تجذب العقول المتعلمة. فالمثقف لا يكتفي بتفسير العالم، بل يطمح إلى إعادة تصميمه.
من المثل إلى القبضة الحديدية
لا يتجلى خطر التفكير الجماعي بأوضح صوره أكثر من صعود ظاهرة النازية في ألمانيا. فبعد الحرب العالمية الأولى، خاب أمل كثير من المثقفين الأوروبيين في الديمقراطية الليبرالية، وأصبحوا بشكل متزايد مفتونين بمخططات شاملة لإرساء النظام الاجتماعي. في ألمانيا، اكتسبت فكرة الدولة القوية التي تُوجّه مصير الأمة جاذبية ليس فقط لدى الشعبويين، بل أيضاً داخل النخب المثقفة. من أبرز هؤلاء يوهان بلينغه، عالم الاجتماع والماركسي السابق، الذي أصبح من المدافعين المتحمسين عمّا سماه “أفكار 1914” – ؛ وهي رؤية للوحدة الوطنية من خلال إرادة جماعية وتخطيط مركزي. وكان بلينجه يرى أن الحرب كشفت عن تفوق الاقتصاد المخطط لألمانيا على الفردانية الليبرالية.
ولم تكن هذه السياسات مجرد أمر واقع، بل حظيت بدعم نشط من العديد من المثقفين الذين كانوا يائسين من الفوضى التي عمّت بعد جمهورية فايمار. ففي نظرهم، كان التخطيط بديلاً أخلاقياً متفوقاً على ما رأوه فوضى الأسواق. لكن نفس المركزية التي وعدت بالتجديد، هي التي مهّدت الظروف المناسبة للقمع. فبإخضاع الفرد للجماعة، منحت الدولة نفسها السلطة لإسكات المعارضة وتعريف من يحق له الانتماء ومن يُقصى. وقد أدى هذا التمركز في السلطة، المُبرر باسم الوحدة والتقدم، إلى بروز النزعة العسكرية، وسنّ قوانين تتعلق بـ “النقاء العرقي”، ومن ثم، في النهاية، إلى الإبادة الجماعية.
حين يصبح التخطيط سلطة
لم تكن عبقرية هايك في تحذيره من الطغيان المباشر فقط، بل أيضا في إدراكه أن الطغيان غالبًا ما يبدأ بأفكار تبدو نبيلة. فالتخطيط، في ظاهره، يعد بالنظام، والعدالة، والتوجيه والإنصاف. لكن ما أدركه هايك، وما لا يزال كثيرون عاجزين عن استيعابه، هو أن تخطيط المجتمع يعني تركيز السلطة. وعندما تُحتكر السلطة، فإنها لا تبقى خيّرة. حذّر هايك من أن التخطيط الاقتصادي يؤدي حتمًا إلى تقويض الحرية، لأنه يُقصي قرارات الأفراد لحساب رؤية موحدة مفروضة بالقوة. فكتب يقول: “كلما زاد تخطيط الدولة، زادت صعوبة التخطيط على الأفراد لحياتهم.” في السوق، يحصل التنسيق دون إكراه. الناس يتخذون قراراتهم استنادًا إلى معرفة موزعة وظروف محلية لا يمكن لأي مخطط حكومي أن يفهمها بالكامل. كان هايك يؤمن بأن هذا النظام العفوي، رغم عيوبه وفوضويته، أكثر إنسانية وعدلاً من أي تصميم مركزي مفروض من الأعلى. ولم يكن هذا الإيمان نابعًا من ثقة عمياء في الرأسمالية، بل من احترام عميق لحدود المعرفة البشرية.
ما كان هايك يخشاه أكثر من غيره لم يكن الديكتاتورية في صورتها الفجّة، بل الانهيار البطيء والناعم للحرية تحت وطأة الوعود. ولهذا السبب كان يرى أن دور المثقفين بالغ الأهمية. فعندما يرفضون التشكيك في منطق المركزية، ويتاجرون بالمُثُل دون النظر إلى عواقبها، فإنهم يُمهّدون الطريق تمامًا للاستبداد ذاته الذي يدّعون مقاومته.
بقلم أياندَا ساكيلي زولو – كاتب مستقل وزميل باحث في مؤسسة السوق الحر
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.