تُعد مسألة إصلاح النظام الضريبي من أكثر القضايا أهمية في النقاشات المتعلقة بالسياسات العامة في العديد من البلدان. ومن أبرز المقترحات المطروحة مؤخرًا فكرة استبدال الأنظمة الضريبية المعقدة والمشوّهة بنظام “الضريبة الموحدة “(ضريبة بمعدل ثابت). ويستحق هذا المقترح دراسة معمقة بشكل أوسع، خاصة من زاوية مدى ملاءمته للدول النامية.
يبدو أن هناك إجماع متزايد في في أوساط خبراء السياسات العامة على أن السياسات النقدية التوسعية المستندة إلى نسخة ما من الكينزية لم تعد فعالة، بل أصبحت تؤدي إلى نتائج عكسية في كثير من الأحيان. ولهذا، يميل الاتجاه العام اليوم إلى أن أفضل طريقة لتطبيق السياسة النقدية هي تفويض السياسة النقدية لبنك مركزي مستقل، يتبع قواعد ثابتة وواضحة بدلاً من الاعتماد على التقدير الشخصي. وهذا من شأنه أن يزيل الطابع السياسي عن السياسة النقدية.
أما فيما يتعلق بالسياسة المالية، فقد ثبت أنها أداة أكثر جمودًا وأقل مرونة من نظيرتها النقدية. إذ تراجعت الحجج المؤيدة لاستخدام السياسة المالية (بما في ذلك سياسة التعريفة الجمركية) كوسيلة لتوفير حوافز لمساعدة “الصناعات الناشئة” أو لتصحيح ما يُزعم أنه إخفاقات في السوق، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التكاليف السياسية المرتفعة الناتجة عن “السعي وراء الريع”. وبالتالي، هناك إدراك متزايد بأن الهدف الوحيد للسياسة المالية يجب أن يكون تمويل توفير الخدمات العامة بشكل أمثل، وبأقل تكلفة على رفاهية الاقتصاد. أما الأهداف التوزيعية للسياسة المالية، فقد فقدت بدورها الكثير من مصداقيتها، في ظل الأدلة الكاسحة من مختلف أنحاء العالم التي تُظهر أن الضرائب التوزيعية غالبًا ما تتحول إلى مجرد آلة ضخمة لإعادة التوزيع، والتي تنتهي – لا سيما في الأنظمة الديمقراطية – إلى خدمة الطبقة المتوسطة بدلًا من الفئات المستهدفة، نظرًا لسعي جميع الأحزاب السياسية إلى إرضاء “الناخب الوسيط”.
من الناحية التقنية، قدّمت “الاقتصاديات العامة” نموذجًا للضرائب المثلى بخصوص مشكلة تمويل الإنفاق على الخدمات العامة بأقل تكلفة اقتصادية، على يد الاقتصادي فرانك رامزي. إذ تنص “قاعدة رامزي” على فرض ضرائب أعلى على السلع التي يكون الطلب عليها أقل مرونة إذ إن ارتفاع السعر الذي يواجهه المستهلك نتيجة الضريبة سيؤدي إلى انخفاض أكبر في الكمية المشتراة، مقارنة بما لو كان الطلب أقل مرونة. (Inelastic) لكن هذه القاعدة تفترض أن الحكومة خيّرة. فماذا لو كانت الحكومة مفترسة، ولا تهدف فقط إلى تحصيل إيرادات محددة، بل إلى تعظيمها بأقل تكلفة ممكنة؟ ما نوع الضرائب التي ستختارها حينها؟ كما أظهر كل من جيفري برينان وجيمس بوكانان، أن الحكومة المفترسة ستختار نفس نوع الضرائب المثلى المقترحة من قبل رامزي! وهذا ما دفع البعض إلى البحث عن نظام ضريبي قادر على كبح هذا الافتراس المتفشي لدى الحكومات في المجال المالي. وكان الحل المقترح: هو نظام الضريبة الموحدة (Flat Tax)، الذي اقترحه روبرت هال وألفين رابوشكا.
في صيغتها المثالية، تستبدل الضريبة الموحدة نظام الشرائح الضريبية المتعددة بمعدل ضريبي موحّد، وتُلغي جميع الإعفاءات والتخفيضات الضريبية، والتي غالبًا ما تستخدمها الحكومات في الهندسة الاجتماعية أو شراء الأصوات الانتخابية. ويتم إعفاء ذوي الدخل المنخفض عبر حد إعفاء ضريبي مرتفع، مما يُضفي طابعًا تصاعديًا على النظام. كما يتم توحيد الضرائب على الشركات، والأفراد، والسلع (مثل ضريبة القيمة المضافة) ضمن نفس المعدل، ما يحوّله فعليًا إلى ضريبة على الاستهلاك، تُجنّب الازدواج الضريبي، مثل فرض الضرائب على الأرباح ثم على توزيعاتها.
من أبرز مزايا هذا النظام: البساطة والشفافية. وكما يقول ستيف فوربس، يمكن لأي شخص تقديم إقراره الضريبي عبر بطاقة بريدية! كما يؤدي إلى تسريع النمو الاقتصادي من خلال تحفيز العمل، وإزالة مختلف العقبات والتشوهات الناتجة عن النظام الضريبي القائم، بما في ذلك خلق أسواق سوداء واسعة بسبب التهرب والتجنب الضريبي. وقد ظهرت هذه المزايا بوضوح في العديد من دول أوروبا الشرقية (منها روسيا، إستونيا، لاتفيا، أوكرانيا، جورجيا، ورومانيا)، والتي، خلال انتقالها من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، اعتمدت نظام الضريبة الموحدة، مما دفع دولًا أخرى (مثل بولندا، التشيك، وسلوفينيا) إلى التفكير في اعتمادها أيضاً.
لكن، وعلى عكس دول أوروبا الشرقية التي كانت تنتقل من نظام منهار إلى اقتصاد السوق، فإن معظم الدول المتقدمة تمتلك أنظمة ضريبية ناضجة، تشكلت عبر عقود من الصراع السياسي التوزيعي (محصلته صفرية). ولهذا، فمن المرجح أن الخاسر الأكبر من الضريبة الموحدة في تلك الدول سيكون على الأرجح الطبقة المتوسطة، التي استفادت تاريخيًا من النظام القديم، وستستخدم أدوات الديمقراطية لعرقلة الإصلاح وتطبيق الضريبة الموحدة.
لذا، قد يكون مستقبل الضريبة الموحدة مرهونًا بالدول النامية التي تمر بمرحلة انتقالية من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق. حيث إن تطبيق الضريبة الموحدة قد يكون أداة ناجعة للحدّ من النزعة الجبائية الافتراسية التقليدية للدولة، وما يرتبط بها من ظواهر سلبية كانتشار الاقتصاد غير الرسمي، مما سيكون له تأثير إيجابي على للنمو الاقتصادي.
بقلم ديباك لال – زميل باحث سابق في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://www.cato.org/commentary/flat-tax-developing-countries