• سبتمبر 5, 2025

بوليفيا: كارثة تسيس الدولة للنفط

تعيش بوليفيا أزمة وقود خانقة تكاد لا تُصدّق، خصوصا في بلدٍ كان يُعرف يوماً باحتياطاته الهائلة من الغاز الطبيعي. فكيف تحوّلت دولة تمتعت بفائض غازي قبل عقدين فقط إلى اقتصادٍ يستورد معظم ما يستهلكه؟ الجواب يكمن في درس فريدريك باستيا عن “ما يُرى وما لا يُرى”.
نفاد الوقود: الاعتراف بعد الإنكار
منذ عام 2023، يعاني البوليفيون من نقص متكرر في الوقود حيث يقفون في طوابير لا تنتهي، تمتد أحياناً لأكثر من 15 شارعاً. وبحلول مارس 2025، أعلن سبعة من أصل تسعة حكّام أقاليم حالة الطوارئ، مطالبين بتدخل عاجل من الحكومة المركزية لاتخاذ إجراءات عاجلة.
في البداية حاولت الحكومة الاشتراكية بقيادة الرئيس لويس آرسي التقليل من شأن الأزمة، ملقيةً باللوم على “مشاكل لوجستية” أو “احتكار” أو حتى “مضاربة”. لكن لم يعد بالإمكان إنكار الواقع. فقد اعترف الوزراء في النهاية بأن البلاد تفتقر إلى الوقود لأنها تفتقر إلى الدولارات. إذ أصبحت بوليفيا تعتمد بشكل كبير على الواردات لدرجة أنها تنفق ما يقارب 56 مليون دولار أسبوعيًا لشراء الوقود من الخارج. فالبلاد تستورد اليوم 86% من حاجتها إلى الديزل و54% من البنزين. ومع تراجع الاقتصاد وجفاف احتياطات النقد الأجنبي، باتت الدولة عاجزة عن تسديد فواتير الموردين.
في الوقت نفسه، تتفاقم المشكلة نتيجة سياسة الأسعار المدعومة. فالبوليفيون يدفعون حوالي 0,53 دولار لليتر، أي أقل بنحو 35% من السعر الذي يدفعه الأميركيون في المتوسط. هذه الأسعار المنخفضة التي تفرضها الدولة تجبر الحكومة على بيع الوقود بأقل من تكلفته الحقيقية، مما يستنزف الأموال العامة لسد الفجوة، ويحفّز في الوقت نفسه التهريب نحو الدول المجاورة. إذ تشير التقديرات إلى أن “التهريب العكسي” (تهريب الوقود من بوليفيا لإعادة بيعه في الخارج) يكلف البلاد نحو 600 مليون دولار سنويًا. باختصار، تخسر الدولة الدولار مرتين: عند الاستيراد المبالغ فيه، وعند تسرب الوقود إلى الخارج.
جذر الأزمة: سيطرة الدولة
في صميم الأزمة تكمن الإدارة المُسيّسة، وتحديد الأسعار بشكل تعسفي، والتفكير قصير المدى. ما يراه المواطن هو أسعار وقود رخيصة؛ وما لا يراه هو التشوهات طويلة الأمد: استثمارات متراجعة، دعم مالي متضخم، والآن، ندرة حقيقية في الموارد. الأسعار المفروضة بمرسوم حكومي تنفّر أي مبادرة خاصة، فلا شركة تريد أن تستورد أو تنتج الوقود لتبيع بخسارة. ونتيجة لذلك، توقفت أنشطة الاستكشاف والتكرير. بين عامي 2014 و2023، انخفض إنتاج النفط بنسبة 54%، في حين تراجع إنتاج الغاز الطبيعي بنسبة 45%. ومع ذلك، استمر الاستهلاك في الارتفاع بسبب الأسعار المنخفضة المصطنعة، مما جعل حدوث نقص أمرًا حتميًا. كما اعتمدت الحكومة بشكل كبير على الفوائض السابقة دون إعادة استثمارها. فقد شهدت بوليفيا طفرة في صادرات الغاز في أوائل العقد الثاني من الألفية، لكن الحكومة تعاملت معها كما لو كانت خزانًا لا ينضب من الأموال.
ومما زاد الطين بلة إدارة الدولة لعوائد الطفرة الغازية. ففي العقد الأول من الألفية، حصدت بوليفيا مليارات من صادرات الغاز، لكنها أنفقتها على الدعم الحكومي والمشاريع السياسية القصيرة الأجل، بدل إعادة استثمارها في الاستكشاف والبنية التحتية. بحلول 2023 تراجعت الصادرات من 6.6 مليار دولار إلى نحو ملياري دولار فقط. لم تكن الأزمة نتيجة صدمات خارجية، بل ثمرة مباشرة للتخطيط المركزي قصير النظر لقد شجّع النموذج الاقتصادي القائم على الدولة الاستهلاك قصير الأمد على حساب الاستدامة طويلة الأمد.
من الخصخصة إلى التأميم
تروي العقود الثلاثة الماضية القصة بوضوح: نمو مدفوع بالسوق تلاه ركود تقوده الدولة. ففي التسعينيات، جزّأ الرئيس غونزالو سانشيز دي لوزادا شركة النفط الوطنية (YPFB) وفتح الباب جزئيا أمام الاستثمارات الأجنبية. فكانت النتيجة أن تضاعف إنتاج الغاز ثلاث مرات بحلول أوائل الألفية، وازدهرت الصادرات، لتصبح المصدر الرئيسي للإيرادات في بوليفيا. لكن في 2006 جاء الرئيس إيفو موراليس و”أمّم” القطاع، ليس بطرد المستثمرين الأجانب مباشرة، بل بزيادة حصة الدولة في رأسمال ((YPFB وجمعت الحكومة أكثر من 50 مليار دولار من عوائد الغاز، استُخدمت لتمويل برامج اجتماعية خفّضت الفقر وعززت شعبية موراليس مما غذّى الوهم بأن الملكية الحكومية جلبت الازدهار..
لكن ذلك الازدهار كان مبنياً على الزخم الناتج عن الإصلاحات السابقة وارتفاع الأسعار العالمية. وبحلول أواخر العقد الثاني من الألفية، بدأت تظهر التصدعات. فقد تراجع إنتاج الغاز بشكل حاد. وبحلول مايو 2023، انخفض الإنتاج بنسبة 45% مقارنة بذروته في عام 2014. وأعادت الحكومة التفاوض بشأن عقود التصدير لتجنب الغرامات على عدم التسليم. أما في الداخل، فقد بدأت بوليفيا في استيراد الوقود بكميات كبيرة، وسرعان ما بدأت حتى في استيراد الغاز الطبيعي.
الطريق إلى الإنقاذ: تحرير السوق
للخروج من هذه الأزمة، يجب على بوليفيا أن تتخلى عن النهج القائم على تدخل الدولة وأن تتبنى اقتصاد السوق الحر. ويعني ذلك إنهاء دعم الوقود وضوابط الأسعار، وتشجيع الاستثمار الخاص، وضمان حقوق الملكية، وتعزيز المنافسة في قطاع الطاقة. سيكون هناك ألم على المدى القصير، لكن البديل هو تراجع غير محدد المدى. كما حذّر الاقتصادي روبرتو لازيرنا، فإن عقلية “طفرة الموارد المملوكة للدولة” لا تصنع تنمية مستدامة. وحده تنويع الاقتصاد عبر المبادرة الخاصة والمنافسة القادرة على ضبط القطاع يمكن أن يعيد تعبئة مضخات الوقود.
يجب على بوليفيا أن تسير في هذا الاتجاه—أن تترك للمؤسسات الخاصة زمام القيادة في بيئة تنافسية وقطاع طاقة تحكمه قواعد واضحة. وإذا فعلت، فسيأتي التعافي، وقد تعود المضخات ممتلئة من جديد.

بقلم فابريسيو أنتيزانا دوران – مساعد للتواصل الاجتماعي في مؤسسة التعليم الاقتصادي (FEE).
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://fee.org/articles/running-on-empty/

Read Previous

التاريخ لا يرحم: الأسواق الحرة تتفوق على الدولتية!