• نوفمبر 16, 2025

الحضارات العظيمة تقوم على التجارة

في أواخر القرن السابع عشر، أبدى أحد الكتّاب الإنجليز دهشته من رخاء جمهورية هولندا، وكتب يقول:
«هذه الأرض لا تنتج قمحًا، ولا نبيذًا، ولا زيتًا، ولا خشبًا، ولا معادن، ولا صوفًا، ولا كتانًا، ولا زفتًا، ولا أي مادةٍ نافعة تقريبًا؛ ومع ذلك لا تكاد توجد أمة في العالم تنعم بكل هذه الخيرات بوفرةٍ أعظم منها — وكل ذلك بفضل التجارة وحدها». لقد كانت التجارة دائمًا أساس العظمة، لا نتيجتها. فكثيرٌ من الحضارات قامت على التجارة ليس لأنها كانت غنية بالموارد، بل لأنها كانت تفتقر إليها.

التجارة… حيلةُ الأمم الفقيرة

كانت أثينا القديمة مضطرة إلى الاعتماد على التجارة لأن أرضها الفقيرة لم تكن تكفي لإطعام سكانها. ومع ذلك، أنتجت الأرض زيوت الزيتون والخمور، فأنشأ الأثينيون شبكات تجارة واسعة لتصدير منتجاتهم واستيراد الحبوب من منطقة البحر الأسود. أما المزارعون الهولنديون، فواجهوا تحديًا مماثلًا: فقد ابتلعت البحار جزءًا كبيرًا من أراضيهم، فاختصّوا بتربية الماشية وتاجروا بالحبوب القادمة من البلطيق. وفي الصين، حين تولت أسرة سونغ الحكم في أواخر القرن العاشر، كان النظام الإقطاعي— الذي كان يمنح النبلاء السيطرة على الأراضي والفلاحين مقابل الخدمة العسكرية — ينهار. وبدلاً من الاعتماد على العمل القسري، قرر الحكّام دفع أجور للعمال. ولأن بلاط أسرة سونغ كان يعتمد على عوائد الضرائب، فقد حرّر التجارة من القيود وشجّع الأنشطة التجارية بشكل نشط من أجل زيادة إيراداته إلى الحد الأقصى.
وقد جعل هذا الانفتاح على التجارة تلك الحضارات من الأكثر ازدهارًا في التاريخ:
• ثروة أثينا مكّنتها من تعميق تقسيم العمل وظهور المهن الحرة — كالفلاسفة، والمؤرخين، والنحاتين، والمهندسين، والكتّاب والممثلين.
• أما الصين في عهد سونغ، فقد بلغت من النجاح حدًّا جعل بعض المؤرخين الاقتصاديين يعتقدون أنها كانت على وشك إطلاق ثورة صناعية قبل بريطانيا بأربعة قرون.
• وفي أوروبا، مكّنت التجارة الهولنديين من تحقيق استقلالهم، والمساهمة في إطلاق حركة التنوير وابتكار الفنون الحديثة.

التجارة منبع الإبداع

إن أعظم ما تقدّمه التجارة ليس الثروة المادية، بل الثروة الفكرية. فهي تمنح الأمم الاحتكاك بالأفكار والابتكارات والأساليب التي لم تكن لتُنتجها بمفردها. فالاحتكاك المستمر بالأجانب ذوي الخبرات والأفكار المختلفة يوسّع آفاق الإدراك لما هو ممكن، ويحرّر العقول من الانغلاق.
ولقد كان الذهن الإغريقي القديم، بطبيعته الفضولية والمتكيّفة، مدينًا إلى حد كبير لحياته وسط مئات المدن-الدول المجاورة ذات الثقافات المتنوعة. أما الانفجار الإبداعي في عصر النهضة الإيطالية، فقد تغذّى من التجارة مع العالم الإسلامي، حيث تعلّم التجّار الإيطاليون العلم والابتكارات المالية والأرقام الهندية-العربية. ورغم أن الباباوات كانوا غالبًا ما يدينون التجارة مع “الكفار”، إلا أن بعض الإيطاليين كانوا يردّون بقولهم: «يجب أن تكون التجارة حرّة وغير مقيّدة، حتى لو وصلت إلى أبواب الجحيم.»

حين يُخنق السوق، تذبل الحضارة

لكن التجارة الحرة قلّما تُترك حرّة طويلًا. فالحكومات كثيرًا ما تسعى لتقييدها خوفًا من التغيير الذي تجلبه. فالتجار الناجحون يمكن أن يزاحموا الأرستقراطية في الثروة، والأفكار الجديدة قد تهدد سلطات النخب الفكرية والسياسية. وهكذا تخاف الأمم من المنافسة الأجنبية — كما نفعل نحن اليوم. وكما أن الانفتاح مصدر قوة، فإن الانعزال مصدر ضعف. فـ«فرسان نهاية العالم الأربعة» هم الحرب، والوباء، والمجاعة، والحواجز التجارية.
• فالإمبراطورية الرومانية المتأخرة دمّرت اقتصادها التجاري بسبب المركزة المفرطة والتنظيم الزائد وتخفيض قيمة العملة.
• والخلفاء العباسيون المتأخرون عسّكروا الاقتصاد لمحاصرة التجار الأقوياء، فخنقوا روح المبادرة.
• وحتى الهولنديون، الذين ازدهروا بالانفتاح، لجأوا لاحقًا إلى الحمائية حين فرضت عليهم الدول الأخرى الرسوم الجمركية.
لكن أعنف انقلابٍ ضد العولمة وقع في الصين بعد أن استولت أسرة مينغ على السلطة عام 1368، واعدةً بـ إعادة الاستقرار بأي ثمن. فقد جُعلت التجارة الخارجية جريمةً يُعاقَب عليها بالإعدام، وسرعان ما حُظرت التجارة الساحلية أيضًا. وقد تحقق الاستقرار فعلًا — ولكن بثمنٍ باهظ: قرونٌ من الجمود والانحدار. فتحوّلت الصين من أعظم حضارات الأرض إلى دولةٍ فقيرة.

دروس من حضاراتٍ خانت تجارتها

من المؤلم قراءة روايات الرحالة الذين وصلوا إلى روما أو بغداد أو موانئ الصين أو مدن هولندا بعد فوات الأوان، ليجدوا المجد قد ذوي والثراء قد تبخّر. كتب أحد الإنجليز عن هولندا قائلًا: «يبدو أن هذه الأمة التجارية في حالٍ يرثى لها؛ فمعظم مدنها الرئيسة قد أصابها الخراب”. وقال آخر عن الصين: «منذ حظر التجارة البحرية… اختفت كل مظاهر الازدهار السابق».

الحماية الاقتصادية قيدٌ ذهبي
الدرس واضح: الحمائية قد تبدو درعًا، لكنها سرعان ما تتحول إلى قفص.
فهي تفصل الأمة عن عقول العالم ومهاراته، مما يعني التنازل ليس فقط عن الثروة، بل عن الطاقة والتجدد المستمر اللذين يمنحان الحضارات بريقها. وما إن يُغلق الباب أمام التجارة حتى لا يبقى سوى ذكريات مجدٍ غابر، وشظايا جرار خزفية مهملةٍ من زمنٍ مضى.

بقلم يوهان نوربرغ – زميل أقدم في معهد كاتو (Cato Institute)

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

https://www.cato.org/commentary/great-civilizations-depend-trade

Read Previous

هل توجب العدالة أن نساعد غيرنا؟

Read Next

ما هو رجل الأعمال الشرعي؟