إنّ فشل إصلاحات دعم السلع في عدد من الدول العربية—كمصر والأردن وغيرها—ليس حالة معزولة، بل عرضٌ لمشكلة أعمق تضرب مجمل عملية صنع السياسات الاقتصادية. فالنمط يتكرر على الدوام: بفعل الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، تُعلَن إصلاحات محدودة، وقد يُنفَّذ بعضها جزئيًا، ثم لا تلبث أن تُلغى أو يُتراجع عنها. وعندما يصبح الوضع غير قابل للاستدامة مجددًا، تُبذل محاولة أخرى تُخفِّف الضغط الآني، لكنها تمهّد في نهاية المطاف لتراجعٍ جديد عن الإصلاح. وهكذا تدور الحلقة المفرغة بلا نهاية.
هذا النمط المتكرر يقوّض مصداقية أي إصلاح مستقبلي. فإذا أدرك الناس أنّ جميع التغييرات السياسية مؤقتة بطبيعتها، فإنّ حتى المُصلِح الصادق الذي يسعى إلى تغيير دائم لن يُؤخذ على محمل الجد. فغياب الثقة يفرغ الإصلاح من معناه قبل أن يبدأ.
ويبرز هذا الفشل بوضوح عند مقارنته بتجربة دول أوروبا الشرقية عقب سقوط الشيوعية. ففي أوائل عام 1991، جرى تحرير 95 في المئة من أسعار السلع الاستهلاكية في تشيكوسلوفاكيا دفعة واحدة، من دون أن يُعاد تنظيمها لاحقًا. وخلال عام أو عامين فقط، نُقلت حصة كبرى من الاقتصاد إلى الملكية الخاصة. ورغم الجدل الذي أُثير أحيانًا حول عدالة الخصخصة، لم يُطرح يومًا، بجدية، خيار إعادة تأميم أي جزء من الاقتصاد.
ويمكن استحضار مثال أحدث: حين ضربت الأزمة المالية العالمية عام 2009 دول البلطيق، لجأت الحكومات هناك إلى مزيج من تخفيضات إنفاق قاسية وإصلاحات هيكلية عميقة. وكان حجم التعديل المالي صادمًا، لكن السياسات أثمرت بسرعة، إذ تعافت اقتصادات البلطيق وبدأت تسجل معدلات نمو لافتة في وقت قصير.
تظهر المشكلة الحقيقية حين لا يثق المواطنون بالوعود التي يطلقها صانعو السياسات بشأن الإصلاح. ويتفاقم هذا الأمر في مراحل الانتقال السياسي أو في البيئات السياسية الصعبة التي يفتقر فيها الناخبون إلى وسائل فعالة لمعاقبة السياسيين الذين ينكثون بوعودهم. والسؤال الجوهري هنا: كيف يمكن للمصلحين الجادين، في مثل هذه الظروف، أن يتغلبوا على معضلة انعدام المصداقية؟
في ورقة كلاسيكية، بيّن الاقتصادي في جامعة هارفارد داني رودريك أنّ أحد الحلول يتمثل فيما سمّاه «المبالغة في التنفيذ» (Overshooting)، أي تنفيذ إصلاحات أكثر جذرية، وأوسع نطاقًا، وأسرع مما تقتضيه الضرورة التقنية البحتة. فحين يكون المصلح مستعدًا للذهاب أبعد مما هو مطلوب ظاهريًا، يبعث رسالة واضحة إلى المجتمع بأنه جاد فعلًا في إحداث تغيير بنيوي. أما السياسيون الذين يختارون الحلول السهلة ويكتفون بالحد الأدنى الذي تفرضه الأزمة، فإنهم يبعثون إشارة معاكسة مفادها أنهم غير معنيين بإصلاح حقيقي.
وقد اكتسبت فكرة «المبالغة في التنفيذ» زخمًا كبيرًا في الأوساط الأكاديمية، مدفوعة بتجربة أوروبا الشرقية، حيث حققت الاستراتيجيات الإصلاحية الشاملة نتائج أفضل من الإصلاحات الجزئية أو التدريجية. وهذا جاء على خلاف توقعات كثير من الاقتصاديين الذين كانوا يعتقدون أن التغيير البطيء والمخطط بعناية وعلى مراحل صغيرة سيتفوق على حلول “الصدمة” الكبرى (Big Bang)، رغم فوضويتها الظاهرة.
ويكتب الاقتصادي بيتر بوتكه من جامعة جورج ميسون أن “الاقتصاد السوفيتي السابق كان في حالة أزمة دائمة منذ عام 1917. فقد أُطلقت إجراءات إصلاحية تلو الأخرى، ثم أُلغي كل منها خلال بضع سنوات”. وبعد الإصلاحات القصيرة الأجل في عشرينيات القرن الماضي وخمسينياته وستينياته وثمانينياته، استُقبل برنامج التحرير الاقتصادي الذي أعلنته الحكومة الروسية عام 1991 بتشكك عميق. فلم يكن لدى الروس أي وسيلة لمعرفة ما إذا كان يمثل محاولة صادقة لتفكيك الاقتصاد المخطط، أم مجرد حلقة جديدة في سلسلة من المناورات الإصلاحية التي اعتادوا رؤيتها في روسيا السوفياتية.
وكان على المصلحين الروس في أوائل التسعينيات، لو أرادوا كسر هذا الشك العام، أن ينتهجوا إصلاحات لا تترك مجالًا للبس بشأن نواياهم، على غرار ما فعله فاتسلاف كلاوس في تشيكوسلوفاكيا وليشيك بالسيروفيتش في بولندا. لكن المصلحين الروس في بداية التسعينيات — تمامًا مثل صناع السياسات في الشرق الأوسط — فشلوا في القيام بذلك.
وإضافةً إلى إرسال إشارة قوية على الجدية والمصداقية، تؤدي الإصلاحات الشاملة إلى نتائج أكثر استقرارًا من الإصلاحات الجزئية، التي يسهل التراجع عنها. فقد شرعت اقتصادات أوروبا الوسطى في إصلاح أنظمة التقاعد، بدءًا من المجر عام 1998، ثم بولندا عام 1999، وسلوفاكيا عام 2005، معتمدة هجينًا يجمع بين نظام التقاعد القائم على الدفع عند الاستحقاق (التضامن بين الأجيال) وحسابات الادخار الخاصة (الرسملة الفردية). وعندما اندلعت الأزمات لاحقًا في أواخر العقد الأول من الألفية، تصاعد الضغط على الحكومات لتدعيم المالية العامة، وبرز إغراء الاستيلاء على أصول صناديق التقاعد الخاصة. غير أنّ هذا السيناريو لم يقع في البلد الذي سبق الجميع إلى خصخصة التقاعد بالكامل عام 1980: تشيلي. والفرق الجوهري هنا أن المصلحين الشيليين ألغوا أي دور مباشر للدولة، باستثناء شبكة أمان أخيرة للأشخاص الذين عجزوا، لأي سبب كان، عن الادخار لأنفسهم.
وتُعد هذه الخلاصة ذات صلة مباشرة بتحديات الإصلاح التي تواجه البلدان العربية. فما لم يتمكن الإصلاحيون العرب المحتملون من إقناع مجتمعاتهم بأنهم جادون في ترسيخ مؤسسات وسياسات قادرة على تحقيق الازدهار الاقتصادي من خلال تغييرات بنيوية عميقة، ستظل البلدان العربية تتخبّط من أزمة إلى أخرى، بلا أفق إصلاحي مستدام.
بقلم داليبـور روهاج، محلل سياسات في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
