لا يمرّ الاقتصاد البريطاني بأفضل حالاته، ولم يكن كذلك منذ فترة طويلة. وهذه حقيقة بديهية لا تحتاج إلى برهان. ولذلك ليس من المستغرب أن يتساءل أشخاص من مختلف الاتجاهات السياسية عن أسباب هذا التدهور، وما الذي يمكن فعله لمعالجته.
يعتقد غاري ستيفنسون أنّه اكتشف الجذر الحقيقي لاعتلال الاقتصاد البريطاني: عدم المساواة في الثروة. ووفقًا لروايته، تحتكر النخبة فائقة الثراء معظم الأصول، بما في ذلك العقارات، وتستخدم العوائد المتأتية منها لشراء مزيد من الأصول، في حلقة مفرغة تعزّز نفسها ذاتيًا. وبهذا، تزداد ثروة قلة صغيرة بصورة متسارعة، في حين يغرق باقي المجتمع في فقرٍ مدقع.
وقد نجح غاري في حشد قاعدة جماهيرية واسعة حول هذه الأطروحة، ما يدل على قدرتها الإقناعية لدى كثيرين. لكنها، مع ذلك، خاطئة تمامًا وذلك لعدة أسباب.
أولًا، إنّ عدم المساواة في الثروة في بريطانيا ليس مرتفعًا على نحو استثنائي في بريطانيا. فالشريحة الأغنى، أي أغنى 1% يمتلكون نحو 22% من إجمالي الثروة، وهي نسبة أقل بكثير مما كانت عليه طوال معظم القرن العشرين، وأقل أيضًا مما هي عليه في معظم دول العالم المتقدم (حوالي 25% في الاتحاد الأوروبي واليابان، و35% في الولايات المتحدة). وهذا ليس دفاعًا عن التوزيع الحالي للثروة؛ بل المغزى ببساطة هو أننا نحتاج إلى تحديد عامل ما يجعل بريطانيا المعاصرة مختلفة — إلى حد ما — عن نظيراتها، ومختلفة أيضًا عن ماضيها. وأيًّا كان هذا العامل، فهو ليس عدم المساواة في الثروة.
لكن حجة غاري تتهاوى أيضًا عند النظر في تركيبة الثروة لدى قمة التوزيع. فما نوع الأصول التي يمتلكها فاحشو الثراء؟ تُظهر البيانات أن أكثر من 40% من ثروة الأسر التي تتجاوز ثروتها الصافية خمسة ملايين جنيه إسترليني هي ثروة تجارية، أي ملكية شركات ناجحة. وهذا لا يعني بالضرورة أن جميعهم روّاد أعمال عصاميون، إذ قد تكون هذه الثروة موروثة، لكن الأهم أنها ليست ثروة انتُزعت من الآخرين أو أموالًا راكدة تُكتنز دون استخدام. كما تشكّل الثروات المالية وصناديق التقاعد أكثر من 40% أخرى من محافظ هذه الأسر. أما الثروة العقارية، فهي على العكس من ذلك، لا تشكل جزءًا كبيرًا منها: فهي لا تتجاوز سدس الإجمالي في أقصى تقدير. وهذا منطقي تمامًا؛ فكلما ازداد ثراء الأفراد، زادت قدرتهم على امتلاك الأسهم والسندات، بينما لا معنى اقتصاديًا لتكديس العقارات السكنية بلا حدود. ومن ثمّ، فليس صحيحًا أنّ الأثرياء يحتكرون سوق العقارات. ويتضح ذلك أيضًا من الأرقام المجردة: إذ تُعدّ نسبة امتلاك المنازل الثانية في بريطانيا منخفضة على نحو لافت، وهي من أدنى النسب في أوروبا، حيث لا تتجاوز نحو 3% من السكان.
فإذا لم يكن عدم المساواة في الثروة هو المشكلة، فما المشكلة الحقيقية إذن؟
إنها مسألة عادية، بل مملة في بساطتها: لقد جعلنا المبادرة في هذا البلد بالغ الصعوبة. فنحن لا نبني مساكن كافية، ولا مقارّ للأعمال، ولا بنية تحتية، ولا محطات طاقة، ولا حتى خزانات مياه. تعاني بريطانيا عجزًا يقارب أربعة ملايين مسكن مقارنة بالمتوسط الأوروبي. والبيانات المماثلة حول المباني المكتبية والتجارية ومرافق الضيافة أقل توافرًا، لكن من المرجّح أن الفجوة مشابهة. كما أنّ شبكة الطرق أقل بنحو الثلث من متوسط الاتحاد الأوروبي، وإنتاج الكهرباء أدنى بنحو الثلث كذلك. وبذلك تحرم بريطانيا نفسها بلا داعٍ من عوامل أساسية لازدهار أي اقتصاد.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في الهوس بعدم المساواة في الثروة. فالمسألة لا تقتصر على أنها تقود إلى توصيات سياساتية سيئة، مثل ضريبة الثروة، بل إن المشكلة الأكبر هي تكلفة الفرصة البديلة. فكل دقيقة نقضيها في النقاش حول ضرائب الثروة وعدم المساواة هي دقيقة لا نقضيها في البحث عن سبل البناء والإنتاج. وهي دقيقة تُهدر من دون تطوير أجندة تقوم على وفرة العرض وتشجيع البناء، أو ما يمكن تسميته بـ“اليِمبيّة القائمة على الوفرة” في السياق البريطاني.
ولا يشترط أن تكون هذه الأجندة ليبرتارية أو قائمة على السوق الحرة الصرفة—وإن كان ذلك أفضل—إذ يمكن أن تحمل طابعًا يساريًا وسطيًا، كما هو الحال في الولايات المتحدة. لكن اليسار البريطاني منشغل بقضايا أخرى، من بينها الهوس بمسألة عدم المساواة في الثروة، وهي مسألة ثانوية في هذا السياق. فالثروة ليست موردًا ثابتًا، بينما الطاقة السياسية كذلك، وهي شحيحة أصلًا. وفي الوقت الراهن، يُهدر قدر كبير منها في مشاريع مسدودة الأفق مثل “اقتصاديات غاري”.
بقلم الدكتور كريستيان نيميتس، رئيس قسم الصحة والرعاية الاجتماعية في معهد الشؤون الاقتصادية
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://fee.org/articles/wealth-inequality-is-not-a-problem-in-britain
