• أبريل 29, 2025

الأسواق الحرة: السلاح الفتاك لتدمير القمع التقليداني

بعد الاستقلال وعلى مدى عقود من الزمن، تبنت الهند نظامًا اقتصاديًا اشتراكيًا، حيث كانت الأعمال التجارية تخضع لتقنين دقيق، والصناعات الثقيلة مؤممة، وكميات الإنتاج محددة رسميًا، كما وضعت حواجز كبيرة أمام دخول الأسواق. هذا الوضع الذي بدا حديثًا في ظاهره تزامن مع استمرار بعض الممارسات الاجتماعية التقليدانية، ومنها التراتبية الصارمة التي يفرضها النظام الطبقي الذي يعرف باسم (الكاست). وكما هو متوقع، حظي الأفراد من الطبقات العليا على أغلب الامتيازات الخاصة التي تقدمها الاشتراكية. وبالتالي لم تكن هيمنة الطبقات العليا على الصناعة الهندية قائمة على الجدارة، بل فقط على النفوذ السياسي.

كان من المفترض أن يكون النظام الطبقي والاشتراكية في الهند على طرفي نقيض. فالاشتراكيون الهنود رفعوا شعار القضاء على أوجه عدم المساواة الطبقية، متوعدين بنظام أكثر عدلاً وإنصافًا. لكن ما حدث في الواقع كان محرجًا للغاية لهم؛ إذ أن الأساليب التي فضلها الاشتراكيون لم تؤتِ ثمارها على الإطلاق، بل أفرزت نتائج عكسية تمامًا. الإقصاءات السياسية، وبرامج “التمييز الإيجابي”، والحظر الرسمي على التمييز الطبقي لم تؤدِّ إلا إلى بروز طبقة جديدة من الداليت (المنبوذين) ذات الشبكات السياسية القوية، مستفيدة من الامتيازات التي أتاحتها السياسات الاشتراكية. هذه الفئة الصغيرة نجحت في تحسين أوضاعها، لكنها أصبحت بمثابة نخبة ريعية جديدة من ذوي النفوذ السياسي، في حين ظلت الغالبية العظمى من الطبقات الدنيا غارقة في براثن الفقر المدقع، وانعدام الارتقاء الاجتماعي، والتمييز الاجتماعي الحاد.

نادراً ما تُحدث النخب الفرعية المُعيّنة تحسنًا حقيقيا في حياة الأغلبية المضطهدة. في معظم الأحيان، تكرس هذه النخب القمع من خلال إضفاء طابع مُحبّبٍ ومألوفٍ عليه. إذ يمكن للنخب المعينة أن تحتوي – وفي كثير من الأحيان تبدد – الغضب المشروع للفئات المهمشة. ببساطة: “إلى أي مدى يُمكن أن تكون الأمور سيئةً عندما يكون لدينا طبقة الداليت في البرلمان؟”.

وهكذا، تمكنت الاشتراكية من التعايش بشكل مريح مع الطبقية الاجتماعية في الهند، في زواج مصلحة لم يكن ليخطر ببال حتى أكثر المنظرين تشاؤمًا. في جوهرهما، الاثنتان تتشابهان أكثر مما يود الاشتراكيون والتقليديون الاعتراف به. فالمجتمع الاشتراكي لا يمكنه إلا أن يكون تراتبياً بطبيعته، لأنه يعهد إلى قلة ذات نفوذ بتوجيه النشاط الاقتصادي للبلاد، وتوزيع الامتيازات، وتحديد من يستحق الصعود على سلم النفوذ. هذه القلة الحاكمة، التي تسيطر على مفاتيح الاقتصاد والسياسة، يمكنها أيضاً تحديد قواعد دخول “النادي”. وهنا، تعمل أنماط التراتبية التقليدية بكفاءة مذهلة؛ إذ يتم استبدال الزعامة القائمة على النسب والمولد، بالزعامة القائمة على الولاء السياسي. النتيجة؟ الرئيس الجديد، مثل الرئيس القديم.

لهذا السبب، قد ينتهي الأمر بالمجتمعات الاشتراكية إلى أن تُشبه – أو ببساطة تتربع على عرش – المجتمعات التقليدية الهرمية أكثر مما يود الاشتراكيون أو التقليديون الاعتراف به. كتب ألكسيس دو توكفيل قائلًا: “من الغريب أن نقول ذلك، لكن [الاشتراكية] تبدو وكأنها وليدة الاستبداد الملكي”. لكنها تتنكر بارتداء قناع الشعب.

إحدى أعظم مزايا نظام السوق الحر أنه لا يختبأ وراء هذا القناع الجميل. نظام السوق الحر لا يعين أحدًا في مجلس النخبة المكلف بإنهاء النخبوية، ولا يحجز مقاعد خاصة في البرلمان. نظام السوق الحر يتطور أولا رغم أنه غير مرغوب فيه وغير موثوق به. وغالبًا ما يكون مدخله الأول عبر السوق السوداء.  ومع ذلك، فإن نظام السوق الحر يوفر منازل، وأجهزة تلفزيون، وأطعمةً وفيرة ورخيصة، ومراوح كهربائية ودراجات هوائية ونارية. وللتذكير، منذ أن بدأت القيادة الهندية في تبني سياسة التحرير الاقتصادي في الثمانينيات، استفادت الداليت – أدنى طبقات النظام الطبقي – من تحسن ملحوظ في قدرتها على شراء كل هذه السلع الاستهلاكية المرحب بها.

ينتج السوق الحر أيضًا رواد أعمال – أشخاصًا من جميع شرائح المجتمع لديهم أفكار عما قد يرغب به العملاء، ولديهم الانضباط لتحويل رؤاهم إلى واقع. لا يأتي رواد الأعمال فقط من النخبة. إنهم منتشرون في المجتمع، بشكل عشوائي على ما يبدو. لا تصنعهم الحصص الحكومية، ولا تمنحهم تراخيص الأعمال صفة الريادة. في السابق، كانت شبكة العلاقات العائلية والطبقات العليا تهيمن على الاقتصاد الهندي، لكن الآن ما يهم هو “سعر المورد – وليس طبقته الاجتماعية –”، كما كتب آيار. وبالتالي فقد بدأ يظهر عدد متزايد من المليونيرات الذين ينحدرون من طبقة الداليت.

حسب العرف، كان يجلس الداليت في أماكن منفصلة (أحيانًا في ساحة نائية) في المناسبات الاجتماعية مثل حفلات الزفاف، لتجنب “تلويث” الضيوف من الطبقات العليا. لكن هذه الممارسة آخذة في التراجع بفضل الإدماج الاقتصادي. إنها ممارسة واحدة من بين العديد، لكنها مؤشر يعبر عن اتجاه أوسع – اتجاه مألوف في الدول التي حررت اقتصادها. في الغرب، على النساء، واليهود، والأقليات الدينية الأخرى، والمثليين والمثليات، وغيرهم ممن تم تهميشهم تقليديًا، أن يشكروا السوق الحر فضله في الإطاحة العامة بتقاليد الاقصاء البالية. تمنح الأسواق الاستقلال الاقتصادي، وهذا الاستقلال يعني أننا لسنا مضطرين لتحمل القمع التقليدي إذا لم نرغب في ذلك. إذا لم تعاملونا جيدًا، فيمكننا وسنشق طريقنا بدونكم.

لا يزال الطريق طويلًا نحو التحسن الكامل، ويمكن أن تمتد سياسات التحرير الاقتصادي إلى أبعد من ذلك، سواء في الهند أو في أماكن أخرى. لكن الدرس واضح: إذا أردنا تدمير نظام قديم قمعي، فإن آلية السوق الحر هي أفضل أداة لتحقيق ذلك.

تميل الأسواق إلى التفوق في تزويد الأفراد بالسلع والخدمات الفردية. كل ما يهم هو استعدادهم للعمل، وستبذل السوق كل ما في وسعها للحفاظ على الأسعار عند أدنى مستوى ممكن. لكن الأسواق ليست جيدة في تجسيد رؤى ثابتة حول ما يجب أن يبدو عليه المجتمع. وكما قال روبرت نوزيك: “الحرية تتحدى النمطية”. حيث تستبدل السوق الأنماط الجامدة بنظام مرن، لا يخضع لأي رؤية اجتماعية شاملة، بينما يوفر لمعظم الأفراد تقريبًا مستوى معيشة أفضل. وكما كتب آيار: “كان كارل ماركس مخطئًا في أمور كثيرة، لكنه كان مُصيبًا في أمر واحد – الطبيعة الثورية للرأسمالية في تدمير القيم والمؤسسات الإقطاعية، والسماح بظهور طبقات جديدة من رواد الأعمال.”

 

جيسون كوزنيكي كان زميلًا بارزًا ومحررًا لكتب معهد كاتو ومجلة Cato Unbound، وهي المجلة الإلكترونية لمعهد كاتو للنقاش الفكري.

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

Read Previous

لماذا الاستبداد المطلق غير مشروع على الإطلاق

Read Next

المصلحة الخاصة مقابل المصلحة العامة