• يوليو 14, 2025

الدولة وانضباط السوق

تشجّع أنظمة الملكية الخاصة على السلوك الحسن، إذ تمنح الأفراد حوافز قوية للالتزام بالقواعد العامة. ومع ذلك، لا يوجد دائما أولئك الذين يسعون إلى جني ثمار هذا النظام دون الالتزام بقوانينه.

هؤلاء لن يكونوا مثاليين دائمًا. ففي بعض الأحيان، يسيئون استخدام قدراتهم، بما في ذلك قدرتهم على امتلاك الملكية الخاصة وتحقيق الأرباح منها. وقد يكون سلوكهم، في بعض الحالات، فظيعًا. إلا أنه بشكل عام، هذا ليس هو النمط السائد، لأن الملكية الخاصة غالبًا ما تخلق حوافز تدفع الناس إلى تجنب السلوكيات الرديئة، وتحثهم على تبنّي السلوك “البورجوازي”، الذي لا يبدو بهذا السوء إذا تأملنا فيه عن كثب. كما كتب ديفيد هيوم ذات مرة:

من ذا الذي لا يرى أن كل ما يُنتَج أو يُحسَّن بفضل فن الإنسان أو صناعته، يجب أن يُصان و أن يُؤمَّن له إلى الأبد، لتشجيع هذه العادات والمهارات النافعة؟ وأن تنتقل الملكية للأبناء والأقارب للغرض النافع ذاته؟ وأن يُتاح نقلها بموجب التراضي، لتشجيع التبادل والتواصل اللذين يعودان بالنفع على المجتمع البشري؟ وأن تُوفى العقود والعهود بدقة، لضمان الثقة المتبادلة والاطمئنان، اللذين يُعززان الصالح العام للبشرية؟

افحص الكُتّاب الذين تناولوا قوانين الطبيعة وستجد أنهم مهما كانت المبادئ التي ينطلقون منها، يفضون في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة: أن الضرورات والمصالح البشرية هي العلّة النهائية لكل قاعدة يضعونها…”

إن الملكية تُحدث سلسلة من التغيرات المعقدة في سلوك الإنسان، وغالبًا ما تكون هذه التغيرات إيجابية. فهي تدفع الناس نحو الحِرَفية والاجتهاد، وتغرس فيهم روح المسؤولية بجعلهم أكثر وعيًا وحرصًا.  تدفعهم للتفكير في كيفية الحفاظ على الموارد من أجل المستقبل، وفي كيفية تعظيم الاستفادة مما يملكون، وفي كيفية التفوق إنتاجيًا على أقرانهم. وتوجه تفكيرهم نحو تلبية “مصالح وضرورات البشرية”، كما قال هيوم. ونحن جميعًا نستفيد عندما يتصرف الناس بهذه الطريقة بشكل عام.

وغالبًا ما يُفهم من كتابات هيوم أنه يُنكر الحقوق الطبيعية، غير أنني أرى أن ما طرحه يُعدّ في حقيقته دفاعًا عنها، بل وتوصيفًا دقيقًا لآلية عملها في السياق الاجتماعي الصحيح. فالحقوق الطبيعية لا تعمل من خلال “نعمة إلهية”، ولا في فراغ مثل سيناريوهات روبنسون كروزو، بل تنبثق من الطبائع والسلوكيات الشائعة لدى الناس في المجتمعات أثناء تعاملهم وتبادلهم وسعيهم لتحقيق مصالحهم وأمنهم الفردي. إن حقوق الملكية تعمل لأنها تتوافق مع الطبيعة البشرية. وهي حقوق “طبيعية” بحق لأنها – في المجمل – عندما يتم الاعتراف بها، تثمر آثارًا طيبة في الناس.

الاسم الذي يُطلق على هذه التغيرات السلوكية هو “انضباط السوق”. فحين تُطبَّق حقوق الملكية بالتساوي على الجميع، فإنها تفرض على الجميع قواعد هذا الانضباط. وفي مثل هذا المجتمع، يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الذاتية من خلال التبادل مع الآخرين، أي من خلال إشباع الحاجات المتبادلة. ومن المدهش أن هذا قد يبدو أشبه بنوع من السلوك الإيثاري، إذ يعمل أغلب الناس بجد فعلاً، ولأن جزءًا كبيرًا من ثمرة عملهم سيعود بالنفع على الآخرين. ولا بأس في ذلك، بل هو في جوهره من صفات المجتمع المزدهر.

غير أن هناك نوعًا معينًا من الأنانيين، يسعى إلى فرض انضباط السوق  — ولكن فقط على الآخرين، وليس على نفسه أبدًا. ففي العالم المثالي للأناني الخالص، يكون هو وحده حُرًّا في تجاهل التزامات الملكية الخاصة، في حين يظل الجميع ملتزمين بها. وبهذا يتمتع بامتياز نادر: يحصد جميع منافع الانضباط دون أن يتحمل هو عناء الامتثال لقواعده. يعيش وسط أناس فاضلين، ملتزمين، مجتهدين، نزيهين لدرجة أنهم لا يفكرون في سرقة شيء منه، بينما هو يسرقهم طوال الوقت.

الأناني الخالص، الذي لا يؤمن بالمبادئ، يفضّل أن يستولي على ما يريد بلا عناء، وأن يعيش في كسل تام، وألّا يواجه أي نوع من الانضباط الحقيقي إطلاقًا، طالما أن الآخرين يلتزمون بقواعد السوق. ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن استراتيجيته هذه غير أخلاقية، بل وتنطوي على نفاق واضح. ويمكننا أن نُدينها بأنها لا تصلح كقاعدة عامة، وبأنها تعامل الآخرين كوسائل لتحقيق أهداف الأناني. لكن ما لا يمكننا قوله هو أنها غير عملية، للأسف. إنها تنجح.

وهذا، بالضبط، هو موقف الدولة الحديثة: التي اكتفت بفرض واجبات الملكية القانونية وتحمل المسؤولية على جميع مواطنيها تقريبًا، بينما تعفي نفسها من تلك الواجبات. فالدولة التي تُدار بدهاء تأخذ فقط ثمار الملكية، دون أن تخضع لأي نوع من الانضباط. إن »  تأديب «  مثل هذه الدولة يظل ضروريًا، بشكلٍ ما، لكنه نوع من الانضباط لا يمكن للسوق أن يوفّره.

 

بقلم جيسون كوزنيكي كان زميلًا أول ومحررًا في “منشورات كاتو” و”كاتو أونباوند”، وهي مجلة النقاش التابعة لمعهد كاتو.

للاطلاع على النسخة الأصلية انقر هنا.

https://www.libertarianism.org/columns/state-market-discipline

Read Previous

أعجوبة التعاون.. كيف ينبثق التعاون دون الحاجة إلى جهة تخطيط واعية

Read Next

حقوق الملكية: المحرك الخفي وراء الازدهار والتقدم