• نوفمبر 14, 2025

الضريبة المثلى على الدخل

ما الحدّ الأقصى لمعدل ضريبة الدخل الذي يمكن أن يُطلب من أي فرد دفعه؟
سؤالٌ كهذا لا يُحسم بسهولة، لأن الناس غالبًا ما يتجاهلون الأدلة النظرية والتجريبية، فضلاً عن الدروس التي تقدّمها التجارب التاريخية التي يمكن أن تساعد في الإجابة عنه. ومن بين الأسئلة الجدلية التي لم تجد جواباً نهائياً حتى اليوم: ما هو معدل ضريبة الدخل؟ إذ ما زال السياسيون الشعبويون يرفعون شعارات من قبيل : «”من العدل أن يدفع الأغنياء أكثر”.
في عام 1971، قدّم الاقتصادي الإسكتلندي جيمس أ. ميرليس بحثاً ثورياً حاول فيه الإجابة على هذا السؤال: ما النظام الضريبي الأمثل إذا أرادت الدولة تقليص الفوارق الاجتماعية دون أن تُضعف حوافز العمل والنموّ الاقتصادي؟
حتى ذلك الحين، لم يتمكّن أحد من تحديد التوازن الأمثل بين العدالة والكفاءة الاقتصادية. وقد نال ميرليس جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1996، ثم لُقّب بلقب فارس عام 1998 تقديراً لإسهاماته.
كان ميرليس مستشاراً لحزب العمال البريطاني، الذي كان يؤيّد حينها فرض ضرائب مرتفعة جداً على أصحاب الدخل العالي. غير أنّ تحليله الدقيق لاختلاف مهارات الأفراد وتأثير الضرائب على حوافزهم كشف له نتيجة مفاجئة: المعدّل الأمثل للضريبة على ذوي الدخل المرتفع هو نحو 20% فقط، وليس 83% كما كان معمولاً به آنذاك. كما توصّل إلى أنّ هذه النسبة (20%) هي الأنسب لجميع الفئات، ما أدّى إلى نشوء فكرة الضريبة الموحدة أو الضريبة المسطّحة (Flat Tax)، التي اعتمدتها فيما بعد عشرات الدول. وقد كتب ميرليس في بحثه قائلاً»: عليّ أن أعترف بأنني كنت أتوقّع أن يقود التحليل الرياضي الصارم للضرائب وفق المنهج النفعي إلى تبرير معدلات ضرائب مرتفعة، لكنه لم يفعل ذلك «. منذ ذلك الحين، دعمت بحوث نظرية وتجريبية عديدة استنتاجات ميرليس. والأهمّ من ذلك أنّ النتائج الواقعية في البلدان التي تبنّت الضرائب المنخفضة أو المسطّحة أثبتت تفوّقها الاقتصادي على الدول ذات الضرائب المرتفعة. ورغم أن ميرليس يُعدّ موضع تقدير كبير لدى معظم الاقتصاديين، فإن عمله تجاهله بشدة السياسيون اليساريون (ومن بينهم كثيرون في وسائل الإعلام)، لأن نتائجه لا تخدم مصالحهم السياسية.
في الولايات المتحدة مثلاً، تُظهر البيانات أنّه لا علاقة تقريباً بين أعلى معدل للضريبة الفردية وبين إيرادات الضريبة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.فعلى مدى نصف قرن، إيرادات ضريبة الدخل الفردي في المتوسط تدور حول 7.9% من الناتج المحلي، سواء كان الحدّ الأقصى للضريبة 28% (في عهد رونالد ريغان بعد إصلاحات أواخر الثمانينيات)، أو 70% (في عهد جيمي كارتر عام 1978)، أو 39.6%في عهدي بيل كلينتون عام 1995 وباراك أوباما عام 2013 .وهذا يثبت أن رفع الضرائب على الدخل لا يزيد الإيرادات كنسبة من الناتج المحلي مقارنة بالمعدلات المنخفضة، خلافاً لما يزعمه كثير من السياسيين وخبراء المالية العامة الرسميين. لكنّ الضرائب المرتفعة تؤدّي بوضوح إلى نتائج سلبية: التهرّب الضريبي، وتراجع فرص العمل، وتباطؤ النموّ الاقتصادي.
ويرى معظم الاقتصاديين الضريبة على الشركات من أسوأ أنواع الضرائب، رغم جاذبيتها السياسية، إذ يستطيع السياسيون الادعاء بأنهم يفرضونها على «الشركات الجشعة». لكنّ الحقيقة البديهية هي أنّ الأشخاص فقط هم من يدفعون الضرائب في النهاية. فتكاليف الضريبة تتحمّلها إمّا العمال في صورة أجور أقل، أو المستهلكون في صورة أسعار أعلى، أو المستثمرون في صورة عوائد أدنى. ولأنّ الولايات المتحدة تفرض الآن أعلى معدل ضريبة على الشركات بين الدول الكبرى 35%)إضافة إلى ضرائب الولايات)، فإنّ كثيراً من الشركات تنقل مقارّها إلى الخارج. والأسوأ أنّ وزارة الخزانة تحاول معاقبة هذه الشركات ومنعها من الانتقال، ما يجعلها أقلّ قدرة على المنافسة.
أما كندا والمملكة المتحدة، اللتين تتمتعان بـقيادة اقتصادية أكثر عقلانية من نظيرتهم في الولايات المتحدة، فقد سلكتا نهجًا بنّاءً في التعامل مع المنافسة العالمية على ضرائب الشركات، من خلال خفض المعدل الأقصى لضريبة الشركات إلى 15٪ في كندا و20٪ في المملكة المتحدة. وكانت النتيجة تدفّق الشركات إليهما، وارتفاع إيرادات الضريبة كنسبة من الناتج المحلي مقارنة بالولايات المتحدة. أما المعدّل العالمي الوسطي للضريبة على الشركات فهو 22%، بينما تفرض إيرلندا ضريبة لا تتجاوز 12.5%، وتذهب دول أخرى إلى معدلات أدنى من ذلك.
انطلاقاً من هذه التجارب، يمكن القول إنّ الحدّ الأقصى الأمثل لضريبة الدخل الفردي ينبغي أن يُخفض إلى 28% على الأقل، و20% على نحوٍ مثالي. أما الضريبة على الشركات فيجب أن تنخفض إلى 20% كحدّ أدنى، و 14% كحدّ مثالي، وهو المعدّل الذي يعتبره خبراء «مؤسسة الضرائب» (Tax Foundation) – المعروفة بتحليلاتها الديناميكية الدقيقة – النسبة المثلى للضريبة على الشركات.
إنّ إصلاح النظام الضريبي الحقيقي لن يتحقّق ما دمنا أسرى الفكر «الثابت الصفري» الذي يرى الاقتصاد لعبة مجموعها صفر، حيث لا يربح طرف إلا بخسارة الآخر. فالواقع أنّ خفض الضرائب الذكي لا يقلّ عدلاً عن رفعها، بل هو في الغالب الطريق الأنجع لتحقيق العدالة في الازدهار والنموّ معاً.

بقلم ريتشارد و. رهن – زميل أول سابق في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://www.cato.org/commentary/optimum-income-taxation

Read Previous

نود أن نطور المناطق النائية.. هل نحتاج مساعدة الحكومة لهذا الغرض؟! ..

Read Next

الديمقراطية والرأسمالية: علاقة تعاضد لا تعارض