مع تصاعد النزعات الحمائية في واشنطن، يصبح من المناسب إعادة النظر في مسألة ما إذا كانت التجارة الحرة تعزز السلام العالمي أم لا.
لطالما دافع أنصار التجارة الحرة بأن فوائدها لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد أيضًا إلى تعزيز السلام بين الشعوب والأمم. فالتجارة الحرة تزيد من تكلفة الحرب، بجعل الدول أكثر ترابطًا اقتصاديًا، وجعل التعاون والإنتاج المشترك للسلع والخدمات أكثر ربحية من اللجوء إلى الغزو والعدوان. كما أن التبادل التجاري الحر يساهم في تعزيز التواصل عبر الحدود، فتساعد التجارة على فهم الآخر، وتحد من الشكوك والعداوات بين الشعوب.
تسهل التجارة الدولية خلق شبكة معقدة من العلاقات البشرية، لأن الاتصالات الهاتفية، والبريد الإلكتروني، واللقاءات المباشرة جزءً لا يتجزأ من المعاملات التجارية بين شعوب الدول المختلفة. وهذا التفاعل الإنساني يُشجّع على التسامح والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة (حتى تجاه السياسيين الحمائيين!).
لقد أدرك المفكرون القدماء، الذين شرحوا ما نسميه الآن بمذهب الاقتصاد العالمي، هذه العلاقة بين التجارة والسلام الدولي. فقد قال الكاتب الروماني ليبـانيوس في القرن الرابع الميلادي في إحدى خطبه: “لم يهب الله جميع المنتجات لكل بقاع الأرض، بل وزع عطاياه على مناطق مختلفة، حتى يضطر البشر إلى إقامة علاقات اجتماعية فيما بينهم لأن أحدهم قد يحتاج إلى مساعدة الآخر من خلال تبادل السلع. وهكذا دعا إلى التجارة، حتى يتمكن الجميع من التمتع بخيرات الأرض، بغض النظر عن مكان إنتاجها.”
إن انفتاح الأسواق يجعل خيار الحرب أقل جاذبية بالنسبة للحكومات، لأنه يرفع من تكلفتها الاقتصادية. فبالنسبة لدولة تتبنى سياسة التجارة الحرة، لا تقتصر الحرب على إزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات فحسب، بل إنها أيضًا كارثية على الأعمال التجارية، إذ تعطل التدفقات التجارية الدولية وتلحق أضرارًا كبيرة بغالبية المواطنين. وعندما يكون باب التجارة مفتوحًا، يمكن للمواطنين الوصول إلى السلع والموارد من الخارج عبر التبادل التجاري، بينما عندما تكون الأسواق مغلقة في ظل سياسات حمائية، يصبح الغزو العسكري هو الخيار الوحيد للحصول على تلك الموارد. كما قال الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا في القرن التاسع عشر: ” إذا لم نسمح للسلع بعبور الحدود، فستعبرها الجيوش.”
لقد أثبت التاريخ التأثير السلمي للتجارة الحرة. فقد شهد العالم خلال الفترة الممتدة من 1815 إلى 1914 قرنًا من السلام النسبي، تزامن مع توسع هائل في التجارة الدولية والاستثمار والهجرة البشرية، وكان ذلك جليًا في تجربة بريطانيا العظمى. وعلى النقيض من ذلك، أدى تصاعد السياسات الحمائية والانحدار الحاد في التجارة العالمية خلال ثلاثينيات القرن الماضي إلى تغذية التوترات التي دفعت ألمانيا واليابان إلى شن الحرب على جيرانهما وبالتالي إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تقع أي حرب بين دولتين تتبنيان سياسات تجارية منفتحة. ففي جميع النزاعات التي اندلعت بين الدول منذ سنة 1945، كان أحد أطراف النزاع – على الأقل – من الدول التي تتبنى سياسات تجارية حمائية. على سبيل المثال، في الحروب المتكررة بين إسرائيل والدول العربية منذ سنة 1948، لم تكن أي من الأطراف المتحاربة ذات اقتصادات مفتوحة، حيث فرضت الدول العربية مقاطعة شبه تامة للتجارة مع إسرائيل. أما صدام حسين، الذي أشعل فتيل حرب الخليج سنة 1991، فلم يكن بأي حال من الأحوال من أنصار التجارة الحرة.
حتى بين الدول الأعضاء في اتفاقية الجات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة)، لم تندلع الحروب إلا عندما كان أحد الطرفين – أو كليهما – يتبنى سياسات حمائية. ففي النزاعات بين الهند وباكستان في سنتي 1965 و1971، كانت كلتا الدولتين عضوتين في الاتفاقية، ولكنهما كانتا ملتزمتين أيضاً بالحمائية كسياسة تجارية. وحتى عندما خاضتا بريطانيا والأرجنتين حرب فوكلاند سنة 1982، كانت الأرجنتين – الطرف المعتدي – لا تزال تحت تأثير السياسات الحمائية التي أرساها خوان بيرون.
بعد كابوس الحربين العالميتين، شجعت الولايات المتحدة الدول الأوروبية على تشكيل منطقة تجارة حرة، ليس فقط لتعزيز التنمية الاقتصادية، ولكن أيضًا للحد من التنافسات الدولية. وقد ساهمت عقود من تحرير التجارة في جعل الحرب بين دول الاتحاد الأوروبي اليوم – أو في المستقبل القريب – أمرًا يكاد يكون غير وارد.
كما عززت شبكة الاستثمارات الدولية المتنامية السلام بين الدول. فقد أشار توماس فريدمان، كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز، إلى ما أسماه بـ “نظرية بيج ماك”، ومفادها أن لم يسبق لدولتين تمتلكان فروعًا لماكدونالدز أن خاضتا حربًا. فالدول المنفتحة اقتصاديًا والمستقرة بما يكفي لتكون موطنًا مربحًا لاستثمارات عالمية، مثل سلسلة ماكدونالدز، تجد في الحرب خيارًا غير جذاب من منظور سياستها التجارية الخارجية.
بطبيعة الحال، لا تضمن التجارة الحرة السلام المطلق، تمامًا كما لا تضمن الحمائية اندلاع الحروب. فاستمرار الرذائل البشرية مثل الجشع، والحسد، والعنصرية، والغطرسة الفكرية، عندما تقترن بسلطة الحكومات، قد تطغى على التأثير الإيجابي للتجارة السلمية. ومع ذلك، فإن تحرير التجارة بين الأمم يجعل الحرب أقل احتمالًا، ويقربنا خطوة نحو تحقيق الوعد بالسلام على الأرض، الذي كُتب قبل ألفي عام.
بقلم دانيال جريسوولد، باحث مساعد، معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية من المقال انقر هنا.