من أكبر المشكلات في النقاشات السياسية والاقتصادية استخدام كلمات وشعارات غير محددة– بل وغير قابلة أصلًا للتعريف أحيانًا. وغالبًا ما تُستخدم هذه المصطلحات من قبل الأشخاص أنفسهم بطرق متناقضة.
المصطلح الذي أودّ تفكيكه هنا هو أحد هذه الشعارات التي يتداولها الناس كما لو كان لها معنى موضوعي ثابت، بينما يستَخدم بطرق مختلفة بل ومتعارضة أحيانًا. ونادرًا ما يُذكر معنى المصطلح أو يتم توضيح معناه بدقة، وهو ما يزيد من شعبيته وانتشاره. فكل عبارة تُترَك دون تعريف تكون أداة مفيدة لمن يحبّ إطلاق الشعارات لحشد التأييد. وقد أشار ونستون تشرشل إلى هذه الظاهرة في معرض حديثه عن الأسواق الحرة: “يرى البعض أن المشاريع الخاصة كحيوان مفترس يجب القضاء عليه، ويراها آخرون بقرة يجب حلبها، ولكن القليل فقط من يراها حصانًا قويًا يجر العربة إلى الأمام“.
في هذا السياق، نتحدث عن شعار: “الناس قبل الأرباح.”
التعريف الوحيد شبه الموضوعي الذي يتبادر إلى ذهني، على الأقل بالنسبة لي، هو أن الشعار يفترض وجود تضارب بين الجانب الإنساني والمكسب المادي، وهذا يلمّح إلى هجوم مفتوح على مبدأ المبادلات الاقتصادية الطوعية برمّتها. وهذه فرضية إشكالية للغاية، إذ إنّ كل تبادل اقتصادي طوعي بحت – حتى لو كان مجرّد مقايضة بحتة – يعني أن الطرفين المشاركين يحققان ربحًا.
إذا كنتَ تملك كمية فائضة من الفاصولياء وأحتاجها، بينما أملك فائضًا من الخبز وتحتاجه، فقد نتبادل السلع. وبالمعنى الاقتصادي التقليدي، كلانا قد “ربح” من الصفقة؛ أنت حصلت على الخبز الذي تريده، وأنا حصلت على الفاصولياء التي أحتاجها. وهذا ينطبق كذلك على جميع عمليات التبادل، حتى إنْ تضمنت المعاملة دفع نقود. فكل طرف لن يُقدِم على التبادل إلا إذا شعر بأنه سيستفيد: لن أقوم بالتبادل إلا إذا رأيتُ أنني سأربح منه، وينطبق الأمر نفسه عليك.
غير أن البعض يختزل كلمة الربح للإشارة فقط إلى المكسبً المادي بعد إتمام عملية التبادل. ويبدو أن هناك من يظنون أنه لا ينبغي للشركات جني الأرباح من بيع السلع. لكن ما الذي يفترضونه إذا دافعًا للإنتاج، إذا كان المستهلك هو الرابح فقط؟ وهل يُعقل أن نُطبّق هذا المنطق على العمّال كذلك؟ هل ينبغي أن يعملوا دون تحقيق أي ربح اقتصادي لأنفسهم؟
إنهم يفترضون أن الربح النقدي شرّ في حد ذاته. لكن، ماذا يحدث حقًا – على الأقل في الأسواق التي لا تُدار سياسياً ولا تُمنح فيها امتيازات للمحسوبين على السلطة – عندما تتحقق الأرباح؟
صاحب المشروع أو رائد الأعمال يضطر إلى شراء الموارد ودفع الأجور والاستثمار مقدمًا في كل عوامل الإنتاج. وعليه أن يخاطر، ويدمج كل هذه العوامل معًا لإنتاج منتج يأمل أن يشتريه عملاؤه. الأهم من ذلك، أنه يجب على هؤلاء المستهلكين أن يعتبروا أن قيمة المنتج أكثر مما أنفق في صنعه. إذا نجح في ذلك، فإنه يربح. وإذا أخطأ، فإنه يخسر. فالأرباح لا تُكافئه فقط على المخاطرة والعمل، بل أيضًا ترسل إشارة إلى السوق أن هذا المنتج يستحق الإنتاج.
تخيّل الآن أن رائد الأعمال يطبق شعار “الناس قبل الأرباح” حرفيًا. فإذا باع المنتج دون ربح، فإنه لم يُرسل إشارة للسوق تُشجّع منتجين آخرين على تقديم نفس المنتج. النتيجة؟ انخفاض في الإنتاج وارتفاع الأسعار، حتى لو لم يكن هناك “ربح” رسمي, مما يضر بكل المستهلكين.
وحتى إنْ كان هذا رائد الأعمال مدفوعًا بأهداف نبيلة، فهو في الواقع يُفقِرنا جميعًا. لأنه يأخذ موارد قيمتها (س) ويضيف إليها تكاليف العمل والإنتاج، ثم يبيع المنتج النهائي بأقل من هذه الكلفة. هذا معناه تدمير للثروة، وبالتالي نقص في الموارد المتاحة لتلبية احتياجات الناس.
بعبارة أخرى: تطبيق هذا الشعار فعليًا لا يمكن أن يتم إلا عبر التحكم السياسي. ولكن هناك أنواع أخرى من “السعي وراء الربح” تُمارس عند حدوث ذلك. فالعلاقات السياسية يمكن أن تكون مربحة جدًا. فالرجل الأغنى في العالم – إيلون ماسك – لم يحقق ثروته من خلال الأسواق الحرة، بل من خلال العقود الحكومية والإعانات والدعم الحكومي.
وعلى الرغم من الخطاب الشعبي السائد، فإن الأنظمة الاقتصادية القائمة على السوق حول العالم قد أدّت إلى ارتفاع في مستويات المعيشة، وزيادة متوسط العمر، وتحسن الصحة والراحة. في المقابل، الأنظمة التي حاولت تطبيق شعار “الناس قبل الأرباح” حرفيًا، انهارت بشكل متكرر. لم تخلق الثروة، بل دمرتها، ولم يستفد منها سوى الطبقة السياسية المتحكمة.
بقلم جيمس بيرون هو رئيس معهد مورفيلد ستوري، ومؤلف لعدة كتب من بينها: تفكيك أساطير الانفجار السكاني والمدّ الليبرالي
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.