الاقتصاد لا يعترف بمراحل أولية أو انتقالية أو بطيئة أو سريعة أو حتى قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى، بل هو عمل مستمر تراكمي لا يتوقف من قبل القطاعات التنموية الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية تتداخل فيها عمليات الاستثمار والادخار والاستهلاك لتشكل لاحقاً حالة من التنامي والانتعاش الذي يفرض شروطه وقواعده وينعكس إيجابياً على الدخل الوطني والفردي.
الاقتصاد السوري في أمس الحاجة اليوم لرسم ملامح خارطة طريق جديدة تُخرجه من عنق الزجاجة التي وصل إليها خلال العقد الماضي وأدت إلى تراكمات وتراجعات وانهيارات غير مسبوقة في بنية هذا الاقتصاد. التحديات كبيرة لأسباب عديدة أقلها ضعف الإمكانيات المادية والمالية والبشرية وأكثرها بناء منظومة من التشريعات والأنظمة المرحبة بالاستثمارات الخارجية والمستقبلة للإمكانات المادية والبشرية والموظفة بالشكل الاقتصادي الأمثل. في إطار سلسلة حديث الأربعاء الاقتصادي أجرينا هذا الحوار مع الأستاذ عامر خربوطلي لنسلط الضوء على أهم محاور ومكونات خارطة الطريق لتسريع إقلاع الاقتصاد السوري.
كيف ترون خارطة الطريق لإقلاع اقتصادي سريع؟
أستاذ خربوطلي: خارطة الطريق على الصعيد التجاري والصناعي السوري, باعتبارهما محركان أساسيان للتطور والنهوض السريع, يجب أن تعتمد على الهدف الاستراتيجي العام لقطاع التجارة :ألا وهو تهيئة الظروف المواتية وبيئة الأعمال المناسبة لتحقيق أعلى قيمة مضافة وكفاءة في استثمار الموارد المتاحة وزيادة تنافسيتها من خلال تطوير الأعمال وتبسيطها وتوفير بيئة تشريعية وقانونية مناسبة، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتسهيل النفاذ للأسواق المحلية والأجنبية، وتحقيق الكفاءة في إدارة الجمارك والحدود، وتطوير البنى التحتية الأساسية والخدمات اللوجستية، والنهوض بالخدمات المساندة للتجارة من شحن ونقل وتسويق ومعارض، وتوفير المؤسسات الداعمة للأعمال.
برأيكم أستاذ: ما هي أهداف وفوائد تحرير التجارة؟
أستاذ خربوطلي: تحرير التجارة يهدف إلى تحقيق عدة فوائد اقتصادية واجتماعية، من بينها زيادة مساهمة التجارة في التنمية ورفع مستوى المعيشة، إلى جانب تعزيز القيمة المضافة من خلال تطبيق معايير الجودة العالمية وتحقيق الكفاءة في استثمار الموارد المتاحة. كما يسهم تحرير التجارة في زيادة حجم الصادرات، لا سيما للسلع عالية التقنية، وتحقيق ميزان تجاري إيجابي. إضافة إلى ذلك، يساهم في تنظيم قطاع الأعمال، تقليص حجم القطاع غير المنظم، جذب الاستثمارات العربية والأجنبية، وتوسيع نطاق الأعمال التجارية الداخلية، بما في ذلك المجمعات التجارية وشركات التسويق. علاوة على ذلك، يؤدي إلى رفع مستوى التشغيل وإيجاد المزيد من فرص العمل، مع تعزيز دور المرأة في تأسيس وإدارة المشاريع التجارية.
ولكن من وجهة نظركم أستاذ كيف يمكننا ضمان أن يتمكن الاقتصاد من الاستفادة من كل هذه المزايا المرتبطة بتحرير التجارة الخارجية؟
أستاذ خربوطلي: لضمان استفادة الاقتصاد من هذه المزايا، من الضروري تعزيز تنافسية التجارة السورية وتحويل الميزات النسبية للمنتجات المحلية إلى ميزات تنافسية قادرة على دخول الأسواق الخارجية. كما يجب تحفيز القطاعات الإنتاجية لزيادة المكون المحلي في المنتجات التصديرية والاستفادة من الموقع الجغرافي والموارد المتاحة. كذلك، ينبغي الاعتماد على الابتكار والتكنولوجيا الحديثة، مثل الاقتصاد القائم على المعرفة والاقتصاد الأخضر، إلى جانب توظيف التجارة الإلكترونية في توسيع نطاق العمليات التجارية والاستثمارية.
في خارطة الطريق الخاصة بكم أستاذ: ما هي خصوصيات القطاعات التي يجب استهدافها في الأساس لتحقيق تأثير اجتماعي واقتصادي أكبر على المدى القصير؟
أستاذ خربوطلي: فيما يخص القطاعات ذات الأولوية في خارطة الطريق قصيرة المدى، ينبغي التركيز على مشاريع وخدمات إعادة الإعمار ودور القطاع الخاص في هذا المجال، إضافة إلى القطاعات ذات الاستخدام الكثيف لليد العاملة لخلق فرص العمل. كما يجب إعطاء الأولوية للقطاعات التي تمتلك تقاطعات مع قطاعات أخرى لتعزيز التكامل الاقتصادي، إلى جانب تأمين حاجة السوق المحلي من السلع الأساسية سواء من خلال الإنتاج المحلي أو الاستيراد. كذلك، من المهم دعم القطاعات ذات الإمكانات التصديرية، لا سيما المنتجات ذات القيمة المضافة العالية بدلاً من تصدير المواد الأولية ونصف المصنعة، فضلاً عن دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر لتعزيز التعافي الاقتصادي.
وعلى المدى المتوسط والطويل، أستاذ: ما هي التأثيرات المتوقعة لتحرير التجارة على الاقتصاد السوري؟
أستاذ خربوطلي: أما على المدى المتوسط والطويل، فمن المتوقع أن يصبح قطاع التجارة أحد الدعائم الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن تتحول سوريا إلى مركز تجاري ومالي إقليمي تنافسي. كما يُتوقع الاستثمار في الصناعات عالية التقنية وتصدير منتجاتها، مما يؤدي إلى تنوع الإنتاج وزيادة الصادرات وفتح أسواق جديدة وتحقيق فائض في الميزان التجاري يساهم بشكل كبير في الناتج المحلي. إضافة إلى ذلك، سيتم تعزيز استثمار الميزات التنافسية عبر سلسلة الإنتاج والتسويق والترانزيت، مع استكمال تحرير التجارة وفق المصالح الوطنية والاعتماد المتزايد على التجارة الإلكترونية. كما ستساهم هذه الإصلاحات في بناء سوق محلية تنافسية غير خاضعة للاحتكار، وتعزيز دور اقتصاد المعرفة والاقتصاد الأخضر.
برأيكم ما هي المتطلبات الأساسية لنجاح تحرير التجارة؟
أستاذ خربوطلي: لضمان نجاح سياسة تحرير التجارة، من الضروري اتخاذ مجموعة من الإجراءات لتخفيف القيود المباشرة وغير المباشرة على التجارة، مثل تحرير التعامل في الصرف الأجنبي وتعويم سعر الصرف، التخفيض التدريجي للرسوم الجمركية، وإزالة القيود الكمية المباشرة. كما ينبغي تقديم حوافز مجزية لعمليات التصدير، إقامة مناطق حرة، وزيادة حصة القطاع الخاص في التجارة الداخلية والخارجية. إضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من الاتفاقيات التجارية ومناطق التجارة الحرة والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) والاستفادة من نظام الأفضليات المعمم (GSP) فيما يخص الصادرات السورية. كما يتطلب الأمر تطوير البنية التحتية التجارية من خلال توسيع المرافئ واستيعاب الأحجام المتزايدة من الصادرات والواردات.
ستؤدي هذه الإصلاحات إلى تحقيق عدة فوائد، من بينها ضمان تدفق السلع إلى السوق السورية بأسعار معقولة وجودة جيدة، وتحقيق اندماج الاقتصاد السوري في السوق العالمية. كما ستساهم في تخصيص الإنتاج المحلي وفقاً للميزات التنافسية، مما يسمح بتصدير الفائض واستيراد السلع الأخرى، إلى جانب تعزيز المنافسة ومنع الاحتكار عبر وجود منتجين ومستوردين متعددين في السوق. وأخيراً، ستسهم هذه الإصلاحات في إعادة تنشيط الشركات الإنتاجية، توجيهها نحو التصدير، وزيادة فرص العمل، مما يؤدي إلى نمو الدخل القومي وتحسين الوضع الاقتصادي بشكل عام.
دمشق 19-2-2025
العيادة الاقتصادية السورية