في سنة 1966، كتب ميلتون فريدمان، كعادته، سطورًا لا تُنسى دخلت قاموسَ المقولات الاقتصادية الشهيرة. ففي فصل من كتابه بعنوان ” أية مبادئ توجيهية للأسعار؟”، عن ذلك ببراعة قائلا: “إن التضخم ظاهرة نقدية دائمًا وفي كل مكان، ناتجة عن زيادة كمية النقود نسبةً إلى الإنتاج… ومن ثم، فإن الوسيلة الفعالة الوحيدة لوقف التضخم هي كبح معدل نمو كمية النقود”.
هذه العبارة الكلاسيكية لفريدمان، رغم صحتها، تغفل أمرًا جوهريًا: ما الذي يدفع نمو الكتلة النقدية التي تغذي التضخم في الأساس؟ وتزداد أهمية هذا السؤال حين نتحدث عن التضخم المفرط، وهو الحالة التي يتجاوز فيها معدل التضخم الشهري نسبة 50% لمدة ثلاثين يومًا متتالية. التضخم المفرط أو الجامح ظاهرة نادرة إلى حد ما، حيث لم يكن هناك سوى 58 حالة من التضخم المفرط في التاريخ المسجل (فرنسا، ألمانيا، فنزويلا، زيمبابوي، وغيرها). وكثيرًا ما يُطرح السؤال: كيف يحدث ذلك؟ ما الذي يرفع الكتلة النقدية والتضخم إلى مستويات فلكية؟ للإجابة، يتعين علينا أن ننظر إلى ما وراء كلمات فريدمان المقتبسة بكثرة.
في حالات التضخم المفرط، تعمل ” طابعات النقود” بأقصى طاقتها لأن الحكومات تُفرِط في الإنفاق، وتفقد بالتدريج مصادر تمويلها التقليدية (كالضرائب، والاقتراض الخارجي، وإيرادات الشركات المملوكة للدولة) ولا يتبقى سوى مصدر وحيد: البنوك المركزية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ظهرت موجة من حالات التضخم المفرط، إذ سجلت 21 من أصل 58 حالة في دول الاتحاد السوفيتي السابقة. والسبب؟ ببساطة، تلك الدول المستقلة حديثًا لم تكن، في ظل النظام الشيوعي، تملك منظومة جبائية فعالة، كما كانت أسواقها المالية المحلية ناشئة، ونفاذها إلى الأسواق المالية الدولية في الأغلب محدودًا. لذا، في البداية راكمت هذه الدول المتأخرات المالية، وبدأت تتسول المساعدات، لكن في نهاية المطاف، لجأت سلطاتها المالية إلى البنوك المركزية، وأجبرتها على تمويل سنداتها الحكومية. عندها بدأت طابعات النقود العمل، ارتفعت الكتلة النقدية بشكل كبير، ومعها انفجر التضخم.
الملفت أنه ما يزيد عن نصف حالات التضخم المفرط المسجلة، والتي بلغ عددها 58 حالة، في تسعينيات القرن العشرين، حدث معظمها كنتيجة مباشرة للعجز التمويلي المرتبط بتسيير الدول الشيوعية الجديدة.
لقد تعرفت شخصيًا على إحدى هذه الحالات. فدولة يوغوسلافيا ما بعد الشيوعية واجهت تحديات مماثلة لما واجهته دول أخرى من الكتلة الشرقية. غير أنها كانت مختلفة من نواحٍ عدة، أبرزها أنها عانت من مشكلة تضخم مزمن ومفتوح، إذ بلغ متوسط معدل التضخم بين عامي 1971 و1991 نحو 76% سنويًا. ورغم وجود نظام ضريبي، فإن التضخم المستمر أفقد الضرائب فعاليتها كمصدر للتمويل الحكومي.
في الواقع، يُشكّل التضخم عند اقترانه بالضرائب مزيجًا قاتلًا. فخلال عمله في الأرجنتين في سبعينيات القرن الماضي، اكتشف الاقتصادي فيتو تانزي ما يُعرف اليوم بـ “أثر تانزي”, أي أنه عندما كان التضخم مرتفعاً ومتصاعداً، انخفضت العائدات الضريبية للحكومة. ينص هذا الأثر على أن هناك فجوة زمنية بين وقوع الحدث الخاضع للضريبة وتحصيل الضريبة فعليًا، وعندما يكون التضخم مرتفعًا ومتسارعًا، فإن القيمة الحقيقية للمبالغ المحصلة تتآكل سريعًا. فعلى سبيل المثال، إذا كان تأخير تحصيل الضرائب شهراً واحداً فقط، ومعدل التضخم الشهري 50%، فإن القيمة الحقيقية للضريبة تنخفض بالنصف تقريبًا. وبهذا، يبين “أثر تانزي” كيف أن الضرائب تفقد فعاليتها كمصدر تمويلي أثناء التضخم المفرط.
اليوم، تعاني فنزويلا من هذا الأثر بشدة. فقد أصبحت القاعدة الضريبية متهالكة بفعل التضخم، ما دفع الحكومة للاعتماد بشكل متزايد على تمويل البنك المركزي، مقارنة بما كان من الممكن أن يحدث في غياب التضخم المفرط. باختصار، فنزويلا عالقة في حلقة مفرغة، يساهم “أثر تانزي” في ديمومتها.
وقد أدى طبع النقود وانهيار الدينار اليوغوسلافي، وما ترتب عليه من تضخم مفرط، إلى إثارة غضب سلوبودان ميلوشيفيتش. ووجدت نفسي مستهدفًا، إذ أطلق وزير الإعلام اليوغوسلافي، غوران ماتيتش، حملة من الشائعات الغريبة حول أنشطتي المزعومة. من بين الاتهامات الموجهة إليّ أنني كنت زعيم شبكة تهريب تعمل على زعزعة استقرار الاقتصاد الصربي من خلال إغراقه بدنانير مزورة. أما الاتهام الأبرز، فكان أنني عميل سري فرنسي يقود فريق اغتيال يُدعى “العنكبوت”، مكون من خمسة أفراد، ومهمته اغتيال الرئيس ميلوشيفيتش!
غالبًا ما يتهرب السياسيون من المسؤولية عن خلق التضخم المفرط. فهم لا يعترفون أبدًا بدورهم، بل يلقون باللوم في أماكن أخرى. ولكن الحقيقة تبقى ثابتة: عندما تنضب مصادر التمويل التقليدية، تلجأ الحكومات إلى البنوك المركزية بأقصى طاقتها، التي تُشغّل طابعات النقود لتمويل نفقاتها. وهكذا، يرفع التضخم المفرط رأسه القبيح.
بقلم ستيف هانكي زميل أبحاث أول سابق في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.