• أبريل 29, 2025

كيف استفاد الفقراء من الرأسمالية؟

غالبًا ما نسمع أصواتًا تنتقد النظام الرأسمالي واقتصاد السوق، متهمةً إياهما بتدهور أوضاع الفقراء وزيادة معاناتهم. هذا الاتهام، المتكرر في أروقة المؤسسات الأكاديمية ذات التوجهات اليسارية والدوائر الفكرية المختلفة، يتجاهل في كثير من الأحيان الحقائق التاريخية الواضحة التي تُظهر دور الرأسمالية الفريد في تحسين حياة البشر وانتشالهم من براثن الفقر.

عند مراجعة التاريخ الإنساني، نجد أن الرأسمالية واقتصاد السوق أثبتا تفوقهما في تقليل معدلات الفقر وتحسين مستويات المعيشة. إذا أخذنا فترة زمنية قصيرة نسبيًا، نجد أن نسبة من يعيشون بأقل من دولارين يوميًا قد انخفضت إلى النصف مقارنة بعام 1990. هذه التحولات الإيجابية كانت ملحوظة بوجه خاص في دول كالصين والهند، حيث انفتحت الأسواق على العالم.

وعلى مدى التاريخ الإنساني الأوسع، نلاحظ أن الرأسمالية قلبت واقعًا امتد لقرون كان فيه الفقر هو القاعدة والغنى هو الاستثناء. بفضل الثورة الصناعية والتوسع الاقتصادي، أصبح الإنتاج والثروة أكثر انتشارًا، مما أدى إلى رفع مستوى معيشة الملايين حول العالم، وتحقيق مستويات غير مسبوقة من النمو والرفاهية.

على سبيل المثال، ارتفعت معدلات امتلاك الأسر الفقيرة في الولايات المتحدة للأجهزة المنزلية الأساسية بشكل مطرد خلال العقود الأخيرة. بالنسبة للسلع الاستهلاكية التي لم تكن موجودة أصلاً في عام 1971، كالهاتف المحمول، لم يكن يمتلكها سوى نصف الأسر الفقيرة بحلول عام 2005. أما اليوم، فإن الأغلبية الساحقة من الأسر الفقيرة تملك هذه السلع أو ما يشابهها، مما يعكس مدى انتشارها وسهولة الحصول عليها.

الرأسمالية لم تقف عند تحسين مستويات المعيشة المادية فحسب، بل أسهمت في تحسين جودة الحياة من خلال خفض معدلات الوفيات وزيادة متوسط العمر المتوقع. كما أن قدرتها على توفير مستلزمات العيش لسبعة مليارات إنسان اليوم، مقارنة بمليار واحد فقط في عام 1800، تُعد إنجازًا لا مثيل له. وكما تقول الخبيرة الاقتصادية دييردري ماكلاوسكي، فإن البشرية أصبحت أفضل بمقدار 120 ضعفًا عما كانت عليه في العصور السابقة، بفضل المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي حققتها الرأسمالية.

إن العملية التنافسية في الأسواق لم تقتصر على تحسين مستوى المعيشة المادية فحسب، بل تجاوزت ذلك لتجعل التعليم والفن والثقافة في متناول أعداد متزايدة من الناس. فقد أصبح حتى أفقر الفقراء في الولايات المتحدة، فضلاً عن العديد من الفقراء في أنحاء العالم، قادرين على الوصول عبر شبكة الإنترنت إلى حفلات موسيقية، وكتب، وأعمال فنية كانت لقرون طويلة حكراً على الأغنياء.

وفي الدول الأكثر ثراء، بدأت آليات الرأسمالية تُحدث تحولات جوهرية في طبيعة العمل نفسها. ففي حين كان الإنسان في السابق يكدح في أعمال شاقة تحت أشعة الشمس الحارقة لمدة قد تصل إلى أربع عشرة ساعة يومياً، أصبح كثير من الناس اليوم يعملون في بيئات مريحة ومزودة بمكيفات الهواء. كما أن ساعات العمل اليومية أو الأسبوعية تقلصت بشكل ملحوظ بفضل الارتفاع الكبير في إنتاجية العمل الناتج عن استثمار رأس المال الإنتاجي.

لقد أدى هذا التطور إلى تقليص الوقت الذي نمضيه في العمل المأجور بشكل كبير، سواء كنا من الأغنياء أو الفقراء. ومع استمرار التحولات الاقتصادية، أصبح دخل الفقراء أكثر استقراراً مقارنة بما كان عليه الحال في الماضي، حيث لم يعد هذا الدخل مرتبطاً بشكل حتمي بالتغيرات المناخية غير المتوقعة. كان هذا الارتباط السمة المميزة للنمط الاقتصادي البائد، الذي كانت الزراعة تُهيمن عليه وتشكل فيه تقلبات الطبيعة تهديداً دائماً لمصادر الرزق.

بفضل الرأسمالية، أصبح العمل أقل مشقة، والدخل أكثر استدامة، والحياة أكثر ثراءً بالفرص الثقافية والتعليمية، مما يعكس تطوراً نوعياً غير مسبوق في تاريخ البشرية.

وللتوضيح، دعونا نستعرض المثال التالي: كان الملوك القدماء أصحاب الثروات الهائلة يعيشون حياة مترفة، تحيط بهم طبقات من الخدم لتلبية رغباتهم كافة، لكنهم في المقابل كانوا عرضة للموت بسبب التهابات بسيطة كالتهاب الأسنان. أما اليوم، فإن الفقراء في أغلب الدول الرأسمالية يستطيعون الحصول على مستوى معين من الرعاية الصحية، فضلاً عن تشكيلة واسعة من الأطعمة التي لم يكن الملوك في العصور الغابرة يحلمون بتذوقها.

كما يمكننا النظر إلى حال العامل في لندن قبل قرن من الزمن. ففي أفضل الأحوال، كان هذا العامل بالكاد يتمكن من شراء رطل من اللحم أسبوعياً لإطعام أطفاله الذين كانوا غالباً أكثر عدداً من طفلين أو ثلاثة. وكانت الأسرة بأكملها تنتظر يوم الأحد لتناول وجبتها الوحيدة من اللحم، حيث يجتمع الأب مع أسرته في يوم الراحة. إذا قارنّا ذلك بالماضي، نجد أن الفقير الأمريكي اليوم يستطيع شراء وجبة تحتوي على ربع رطل من اللحم يومياً بأقل من ربع أجر ساعة عمل، وهو ما يعكس التحسن الكبير في الظروف المعيشية.

أما من يزعم أن الرأسمالية زادت من أوزان الفقراء بسبب وفرة الطعام، فإن هذا الادعاء، رغم طرافته، يعدّ إنجازاً مقارنة بعصور ما قبل الرأسمالية، حيث كان سوء التغذية سائداً، وكان الفقراء بالكاد يستطيعون تأمين الحد الأدنى من قوتهم بعد عمل شاق.

تشهد حقائق التاريخ بأن الأغنياء كانوا دائماً يعيشون في رفاهية بفضل استغلالهم لعمل الآخرين. لكن الفقير في العصور التي سبقت الرأسمالية لم يكن أمامه أي أمل في تحسين وضعه المعيشي أو الهروب من دوامة العمل البدني المرهق لتأمين لقمة العيش. في المقابل، أصبح الفقير اليوم في الدول الرأسمالية يعيش حياة تضاهي حياة ملوك الماضي، بفضل تحرير العمل وإمكانية تراكم رأس المال، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية وإثراء حتى أفقر الفقراء.

إن التنافسية في الأسواق، وما تولده من إشارات الربح والخسارة، أدت إلى خفض تكلفة الكماليات التي أصبحت اليوم من ضروريات الحياة. ومع ابتكار الآلات، بات العمل أقل مشقة وأكثر إنتاجية، وهو ما انعكس إيجاباً على الجميع. حينما أصبح الابتكار والسعي إلى الربح قيمتين مقبولتين لدى الطبقة البرجوازية، انطلقت ينابيع الثروة لتحقق الخير للجميع. ومع تحرر الأفراد من القيود التي كانت تفرضها الحكومات على الابتكار، أصبح بإمكان الجميع، حتى الفقراء، أن يتمتعوا بحياة مريحة وكريمة.

وقد يدّعي البعض أن هذه التغيرات ناتجة عن التقدم التكنولوجي، لكن التجربة السوفييتية تثبت عكس ذلك؛ إذ امتلك الاتحاد السوفييتي علماء بارزين، لكنه فشل في تحويل معرفتهم إلى أدوات تخدم الفقراء. كما أن الموارد الطبيعية ليست العامل الحاسم، والدليل على ذلك أن هونغ كونغ أصبحت من أغنى المناطق رغم شح مواردها الطبيعية، بينما تعاني فنزويلا، ذات الثروات الطبيعية الهائلة، من الفقر والدمار بسبب النظام الاشتراكي.

الابتكارات تحتاج إلى مؤسسات تدعمها لتحسين حياة الأفراد، وهذه هي المهمة التي تتقنها الرأسمالية بجدارة. فهي لا تزال، كل يوم وكل ساعة، تسهم في تحسين مستوى معيشة الفقراء بطرق غير مسبوقة.

وفي نهاية المطاف، دعونا نتأمل ما حدث عندما عرضت السلطات السوفييتية فيلم “عناقيد الغضب” المقتبس عن الرواية الشهيرة كدعاية ضد الرأسمالية. فقد تناول الفيلم قصة أسرة أمريكية فقيرة تُجبر على ترك منزلها خلال فترة الكساد العظيم بسبب الجفاف والعواصف الترابية، فتنطلق بسيارتها القديمة في رحلة بحث عن حياة أفضل في كاليفورنيا. غير أن العرض لم يدم طويلاً، لأن المشاهدين الروس ذُهلوا من فكرة امتلاك أسرة فقيرة لسيارة، مما دفع السلطات السوفييتية إلى إيقاف العرض. هذه الواقعة تعكس مفارقة مؤلمة: حتى الدعاية المضادة للرأسمالية لا تستطيع إلا أن تقدم أدلة على تفوقها. 

الحقيقة التاريخية تقول إن الرأسمالية، رغم انتقاداتها، تظل النظام الاقتصادي الوحيد الذي نجح في جعل الفقراء يعيشون حياة كانت تُعتبر في الماضي حكرًا على الملوك والنخب الثرية. من خلال تحرير الأسواق، وتشجيع الابتكار، وجعل المنافسة الاقتصادية في خدمة الإنسان، تمكنت الرأسمالية من تحويل حياة الفقراء إلى حياة تتسم بالكرامة والرفاهية.

ستيفين هورويتز

أستاذ علم الاقتصاد، جامعة سانت لورانس

Read Previous

جميس بوكانان

Read Next

الحكم لمصلحة الشعب