تُظهر النظريات الاقتصادية كما تُعلّمنا التجارب التاريخية أن جودة المؤسسات قد تكون هي العامل الحاسم والفاصل بين الفقر والازدهار.
ماذا تعني جودة المؤسسات ولم تُعدّ مفتاحًا لتحقيق التقدم الاقتصادي؟
المؤسسات لا تعني هنا المنظمات (من قبيل الحكومة، البرلمان، الخ(، بل تعني “قواعد اللعبة” التي توجه السلوك الإنساني وتشكّل الإطار العام لضبط التفاعلات بين الأفراد. تتنوع هذه المؤسسات ما بين قواعد رسمية (قوانين، دساتير، تنظيمات، الخ) وقواعد غير رسمية (عادات، تقاليد، أعراف، الخ) تؤثر كل منها بشكل كبير على القرارات الاقتصادية والاجتماعية. كيف؟ لان المؤسسات المستقرة تسهم في تقليل حالة عدم اليقين وتشجع على المبادلات الاقتصادية، حيث تصبح توقعات الأفراد بشأن تصرفات الآخرين أكثر وضوحًا، مما يوفر بيئة محفزة للأعمال والاستثمار.
لكن ليست جميع المؤسسات تلعب هذا الدور الإيجابي. وكما وضّح الباحثان دارون عاصم أوغلو وجيمس روبنسون في كتابهما لماذا “تفشل الأمم؟” في سنة 2010، هناك فرق جوهري بين نوعين من المؤسسات:
• المؤسسات الشاملة: تشجّع على المشاركة الواسعة لأكبر عدد من الأفراد في النشاط الاقتصادي وخلق الثروة، وتحمي حقوق الملكية وتحدّ من تدخل الدولة.
• المؤسسات الاستخراجية: تخدم مصالح نخب ضيقة على حساب الأغلبية، وتتسم بالاستغلال، الإكراه، البحث عن الريع، وانتهاكات حقوق الأفراد.
وبذلك تعبد المؤسسات الشاملة الطريق نحو الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، بينما تعيق المؤسسات الاستخراجية الابتكار والاستثمار، وتُبقي المجتمعات حبيسة التخلف الاقتصادي والصراعات.
تكون جودة المؤسسات عالية في الدول عندما تسود فيها المؤسسات الشاملة التي تدعم الأسواق المفتوحة وتحقق توازنًا متناغمًا بين مصالح رواد الأعمال والمستهلكين. على العكس من ذلك، تفشل المؤسسات الاستخراجية في تحقيق التنمية لأنها تشجع استراتيجيات سلوكية تقوم على المكاسب الصفرية، حيث كلما يكسب طرف يكون على حساب خسارة الطرف الآخر.
مؤخرًا، أصدرت الشبكة الليبرالية لأمريكا اللاتينية (Red Liberal de América Latina, RELIAL) تقريرًا حول مؤشر جودة المؤسسات (ICI) لسنة 2024، والذي أعدّه الاقتصادي مارتين كراوس. يقيس المؤشر جودة المؤسسات في 183 دولة بالاعتماد على مجموعة من المعايير التي تشمل الحرية الاقتصادية والسياسية، مثل حماية حقوق الملكية، دعم الأسواق الحرة، تعزيز الابتكار وريادة الأعمال، وضمان الديمقراطية التشاركية القائمة على آليات ضبط وتوازن السلطات.
تصدّرت قائمة هذا التصنيف دول مثل الدنمارك وسويسرا وفنلندا ونيوزيلندا، فيما تراجعت الولايات المتحدة إلى المرتبة 18 بعد فقدانها أربع مراتب منذ سنة 2021. أما في قاع الترتيب، فنجد كل من كوريا الشمالية واليمن وسوريا وفنزويلا، حيث تهيمن مؤسسات استخراجية تعرقل النشاط الاقتصادي وتحرم الأفراد من حقوقهم الأساسية.
تمثل الدول الاسكندنافية نموذجًا حيًّا لنجاح المؤسسات الشاملة في تأمين مستويات عالية من الحرية السياسية والاقتصادية. ولا يقتصر هذا النجاح على الحرية فقط؛ بل يتجلى أيضًا في مستويات الدخل المرتفعة. على سبيل المثال، تحتل الدنمارك المرتبة الثامنة عالميًا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لبيانات البنك الدولي.
في أمريكا اللاتينية، تبرز تشيلي كنموذج ملهم بفضل إصلاحاتها الاقتصادية المؤيدة للسوق الحرة والتي عززت جودة مؤسساتها. وقد انعكس ذلك على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الذي يفوق متوسط المنطقة بنسبة 58%. هذا الإنجاز يؤكد الأهمية المحورية للمؤسسات الشاملة في تحقيق التقدم الاقتصادي.
لكن عملية التغير المؤسسي غالبًا ما تكون بطيئة وثابتة، كما يشير إلى ذلك الباحث مارتين كراوس، مما يجعل التحولات الجذرية أمرًا نادرًا. يتضح هذا الأمر من خلال الاستقرار النسبي الذي شهدته المراتب العليا لمؤشر جودة المؤسسات على مدار السنوات الأربع الماضية، حيث احتفظت العديد من الدول بمواقعها دون تغييرات كبيرة.
إن الاستقرار المؤسسي في البلدان المزدهرة يشكل مفتاحا لرفاهيتها. ويرى جورج ليف أن المؤسسات الجيدة ” توفر الحاجة إلى الفضيلة “، حيث تمنح الأسواق المنظمة بيئة تمكّن الأفراد من المساهمة في تحقيق رفاهية الآخرين دون الحاجة إلى مستويات استثنائية من الإيثار. فالتاجر لا يلتزم بالنزاهة لأنه فاضل بالضرورة، بل لأن النزاهة تخدم مصلحته التجارية.
هذا الانضباط المؤسسي يعكس جوهر اقتصاد السوق الحر، الذي ينظم المجتمع ويعزز التعاون الطوعي دون الاعتماد على فضيلة استثنائية لدى الأفراد. في مثل هذه المجتمعات، لا يقتصر الأمر على التزام الأفراد بالقواعد المنظمة للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، بل يتعداه إلى ترسيخ قيم الاحترام والحوار من أجل الإقناع في حياتهم اليومية.
هذه القيم تصبح جزءًا أصيلًا من الثقافة الاجتماعية نتيجة للتفاعل المستمر ضمن بيئة تعتمد على التبادل الطوعي والمسؤولية الفردية. لذلك، ليس من قبيل الصدفة أن تكون الدول التي تتبنى مؤسسات السوق الحر وتعززها بين الأكثر ازدهارًا واستقرارًا، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل أيضًا على المستويات الأخلاقية والاجتماعية.
لماذا تعتبر المؤسسات ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي؟
يعتمد النمو الاقتصادي في أي بلد على قدرته على استخدام موارده بكفاءة — من عمل، رأس مال، وأراضٍ — إلى جانب التكنولوجيا والمعرفة، لإنتاج السلع والخدمات التي تلبي احتياجات المجتمع. لكن هذه القدرة لا تتبلور إلا في ظل إطار مؤسسي مستقر، حيث تكون القواعد واضحة وقابلة للتنبؤ، مما يسمح للأفراد بالتخطيط والابتكار وتحمل المخاطر—وهي عوامل أساسية في النمو الاقتصادي.
من خلال حماية حقوق الملكية وضمان إنفاذ العقود الطوعية، تمنح المؤسسات المستقرة الأفراد الثقة اللازمة للتخطيط لأنشطتهم الاقتصادية. هذه الثقة المؤسسية تشجعهم على الاستثمار والادخار، وتخلق حافزًا لتطوير الأفكار المبتكرة، مما يؤدي إلى تراكم رأس المال وتعزيز الإنتاجية. وعلى النقيض من ذلك، فإن المؤسسات غير المستقرة، تخلق حالة من عدم اليقين تُعيق الاستثمار والتجارة. فعندما لا يستطيع الأفراد التنبؤ بنتائج أفعالهم بسبب غياب الثقة في القوانين أو ضعف إنفاذها، يصبحون أقل استعدادًا للمخاطرة أو الاستثمار في مشروعات طويلة الأجل.
يؤكد هذا التباين أن بناء مؤسسات قوية ومستقرة ليس من الكماليات، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق النمو الاقتصادي. فبغيابها، تتضاءل فرص الابتكار وتتعثر جهود التنمية، تاركة الاقتصادات عالقة في دوامة الركود والاضطراب.
خلاصة
تلعب المؤسسات دورًا محوريًا في بناء اقتصاد متوازن ومستدام، فهي ليست مجرد قواعد لتنظيم العلاقات الاقتصادية وتميكن التعاون، بل تمثل الإطار الذي يقلّص حالة عدم اليقين وبذلك توفر بيئة مواتية للنمو، حيث يصبح الأفراد والشركات أكثر استعدادًا للابتكار والاستثمار وتحمل المخاطر.
عندما تغيب المؤسسات القوية، يعني ذات الجودة العالية، تصبح الاقتصادات فوضوية وغير فعالة، مما يفاقم من عمق التفاوتات الاجتماعية والمجالية. هذه البيئة تقوّض فرص النمو وتُضعف الإنتاجية، حيث ينصرف الأفراد عن المشروعات طويلة الأجل خوفًا من المخاطر وعدم الاستقرار. على النقيض، عندما تسود المؤسسات المستقرة ذات الحكامة الرشيدة، يتدفق الاستثمار ويتسارع الابتكار، مما يمهد الطريق لازدهار اقتصادي مستدام.
إن التاريخ والنظرية الاقتصادية تعلمنا أن البلدان التي تتمتع بمؤسسات قوية تحمي الملكية الخاصة وتسرع إنفاذ العقود تشهد أعظم قدر من الرخاء والتنمية على المدى الطويل. لذلك فإن تحسين جودة المؤسسات ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة استراتيجية لأي اقتصاد يسعى إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
سيرجيو مارتينيز هو محرر مشارك في مؤسسة التربية الاقتصادية (Foundation for Economic Education, FEE)، ولديه خبرة في القطاع العام وفي التحدث في العديد من المنتديات والدورات التكوينية حول التربية الاقتصادي.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.