• أبريل 29, 2025

كيف تتحول من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق الحرة: التجربة الإستونية

بعد سقوط جدار برلين في سنة 1989، انهارت العديد من الأنظمة الشيوعية الأخرى في المنطقة أو أُطيح بها على يد شعوبها. إن سقوط الجدار كان بلا شك الحدث الجيوسياسي الأكثر أهمية في القرن العشرين. فقد أنتجت الاشتراكية اقتصاديات راكدة وأفقرت مواطني هذه الدول (باستثناء الطبقة الحاكمة). لكن هل تعلّم صناع القرار اليوم من انهيار هذه الأنظمة التدخلية القائمة على سيطرة الدولة؟

من الواضح أن الإجابة هي لا. يبدو أن الكثيرين منهم عازمون على تبني سياسات مشابهة، غافلين عن العواقب الحتمية. وهنا نستحضر مقولة ألبرت أينشتاين (1879-1955): “الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرارًا وتكرارًا وتتوقع نتائج مختلفة”. هناك العديد من الدول التي انتقلت من النظام الاشتراكي إلى نظم السوق الحرة، وحققت نتائج اجتماعية واقتصادية مذهلة. وتُعد إستونيا الشيوعية سابقا واحدة من أبرز هذه الدول.

تستحق التجربة الإستونية في الانتقال من دولة اشتراكية استبدادية إلى نظام سوق حرة متكاملة إشادة كبيرة. فقد أصبحت إستونيا نموذجًا عالميًا لواحدة من أسرع وأكمل عمليات التحول من الاشتراكية إلى نظام يوفق بين اقتصاد السوق الحرة والديمقراطية. في ورقة بحثية بعنوان “المعجزة الاقتصادية الإستونية”، كتب مارت لار (رئيس وزراء إستونيا في سنة 1992 والذي شغل المنصب حتى 1994، ثم من جديد بين 1999 و2002):

“لقد دُمرت إستونيا خلال فترة الحكم الشيوعي. في سنة 1939، كانت مستويات المعيشة وأسلوب الحياة في إستونيا متماثلين إلى حد كبير مع نظيريهما في فنلندا المجاورة… لكن بعد 1939، ورغم أن الناس في كلا الجانبين من خليج فنلندا تعلموا وعملوا بجد، فإن الفنلنديين وحدهم من ازدهروا. بعد أن بدأ البلدان من نفس النقطة، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في فنلندا 14,370 دولارًا في سنة 1987، بينما كانت التقديرات المتفائلة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إستونيا لا تتجاوز 2,000 دولار فقط.”

ورغم هذه الخلفية القاتمة، فقد تمكنت إستونيا في السنوات الأخيرة من الخروج من سباتها الاشتراكي لتسجل أسرع معدل نمو اقتصادي في أوروبا. ففي المراحل الأولى من الإصلاحات، بلغ معدل النمو السنوي بالفعل 6%، وبحلول سنة 2005 وخلال النصف الأول من سنة 2006، تجاوز النمو السنوي 11%.

وفيما يتعلق بمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، انتقلت إستونيا من مجموعة “الدول الأقل تقدما” إلى مجموعة “الدول المتقدمة” مع مستويات معيشية في مسار تصاعدي تدريجي. ومن أبرز إنجازاتها حتى الآن نجد نظام الاتصالات “سكايب” الذي اعتبر في سنة 2006 كثالث أكثر علامة تجارية نفوذاً في العالم. وتُعد إستونيا اليوم صاحبة الاقتصاد الأكثر تنافسية بين الدول الأعضاء الجديدة في الاتحاد الأوروبي، وتُوصف بأنها الأقل فسادًا من بين جميع البلدان التي تم تأسيسها حديثًا. 

يثير هذا الإنجاز السريع تساؤلًا أساسيًا: كيف تحقق كل هذا في فترة زمنية قصيرة؟ تكمن الإجابة في الإصلاحات الاقتصادية الموجهة نحو السوق التي تم تنفيذها بحزم وسرعة. ومن أبرز ما تضمنته رزمانة هذه الاصلاحات: 

  • إعلان إستونيا منطقة تجارة حرة بالكامل: أُلغيت القيود على الصادرات وخُفضت التعريفات الجمركية، مما وفر بيئة مواتية للإصلاح الاقتصادي الشامل.
  • تطبيق معدل ثابت ومنخفض للضريبة على الدخل الشخصي: جعل ذلك الامتثال الضريبي أكثر بساطة وأقل تكلفة. وكان الدافع وراء تبني الضريبة الثابتة بدلاً من نظام الضرائب التصاعدية أن “النظام الضريبي يجب أن يشجع على الادخار والاستثمار، وأن يحفز الأفراد على خلق ثروات جديدة.”
  • خصخصة واسعة النطاق للمؤسسات العامة والأصول المملوكة للدولة: تم بيع كل مؤسسة عمومية إلى مالك رئيسي، بينما مُنح الأفراد حصصًا أقلية مقابل قسائم الخصخصة، مما وسّع قاعدة المشاركة الاقتصادية للمواطنين. وكما أوضح لار “ :أدركت النقابات العمالية أنه رغم أن الخصخصة ستؤدي إلى فقدان العديد من الوظائف، فإنها كانت السبيل الوحيد للخروج من الوضع الراهن. فلو لم تتم خصخصة وإعادة هيكلة الشركات، لفقد جميع العمال في المؤسسات وظائفهم.”
  • إقرار قانون صارم يلزم الحكومة بتقديم ميزانية متوازنة إلى البرلمان الإستوني: فرض هذا الإجراء تخفيضًا جذريًا في كافة أشكال الدعم والمعونات، وقلص من حجم الحكومة. وقد أوصل هذا القرار رسالة بسيطة وواضحة للمؤسسات الصناعية السوفييتية المتداعية: “إما العمل الجاد أو الزوال.”
  • مأسسة سيادة القانون كأساس للإصلاحات: أشار لار إلى أن “سيادة القانون بالغة الأهمية في مكافحة الفساد، وهو أحد أسوأ الآفات التي تصيب الاقتصادات الانتقالية. فوجود قواعد غير واضحة أو غير شفافة، إلى جانب التنظيمات الصارمة والرقابة المبالغ فيها، يمنح المسؤولين سلطات استثنائية وفرصًا عديدة لطلب الرشاوى ومجالاً واسعاً للاستيلاء على الثروة العامة.” 

إن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها العديد من الدول اليوم (خارج أوقات الحروب) هي في كثير من الأحيان نتيجة لتنفيذ سياسات تدخّلية قائمة على أيديولوجيا الدولة، والتي تتعارض مع الطبيعة الإنسانية. هذه السياسات تقيد الحريات التي يعتز بها الأفراد، وخاصة حرية السعي وراء طموحاتهم الاقتصادية والاجتماعية دون تدخلات قسرية من الحكومة.

كما هو الحال في إستونيا، فإن الإصلاحات القائمة على اقتصاد السوق من شأنها أن تُطلق روح المبادرة في سوريا. ويتعين على الحكومة أن تمنح الناس الحرية في متابعة مشاريعهم ومساعيهم، بشرط ألا تتضمن أعمال اكراه أو احتيال. وفي هذا الإطار، يجب أن ينحصر دور الحكومة في حماية الملكية الخاصة، وضمان حرية التبادل الطوعي، وتعزيز المنافسة، وتمكين الأفراد من حرية القرار مع إلزامهم بمسؤولية خياراتهم الشخصية.

 

تمبا نولوتشونغو هو مدير مؤسسة السوق الحر.

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

Read Previous

عندما تدمر الديمقراطية نفسها

Read Next

سياسة التحكم بالأسعار: التداعيات الخفية