في القرن الثامن عشر، كان برنارد مانديڤيل أحد المدافعين الأوائل عن مفهوم الأسواق الحرة، وهو معروف بمواقفه الجريئة التي تجمع بين السخرية والجدل الفكري. لكن، في محاولته تبرير الأسواق الحرة، يرتكب مانديڤيل خطأين أساسيين يضعفان حجته. أولاً، يساوي المصلحة الذاتية في المجال الاقتصادي بالجشع، وهو تعميم مضلل. ثانيًا، يغفل أن ما يُسمى بـ “الرذائل الخاصة” مثل الجشع والغرور، ليست مجرد خصال فردية محضة؛ فهي لها تكاليف اجتماعية كبيرة تجعلها، في أفضل الأحوال، “منافع عامة” لكن غير خالصة.
في كتابه الشهير ” أﻣﺜﻮﻟﺔ النحل؛ أو، الرذائل الخاصة والمنافع العامة” (الطبعة السادسة، 1729)، يعرض برنارد مانديڤيل رؤية مثيرة للجدل حول دور الرذائل في الاقتصاد الاجتماعي. وفقًا له، فإن التقدم الكبير في رفاهية الناس في بداية القرن الثامن عشر لم يكن نتيجة للفضائل، بل بسبب رذائل الأفراد الذين يسعون إلى الثراء فالغرور والجشع يدفعان الناس إلى العمل الجاد والإنتاج. بينما وفقًا لمانديڤيل، فإن تشجيع الفضائل الأخرى مثل الصدق يؤدي إلى الفقر، وبالتالي فإذا أردنا أن تكون “خلية النحل” “جنة” من الرفاهية، فعلينا أن نرغب في أن تظل مليئة بالرذائل. (أﻣﺜﻮﻟﺔ النحل، المجلد الأول، صفحة 31).
من الصحيح أن الغرور والجشع يمكن أن يدفعا الفرد للعمل الجاد ليصبح ثريا، إلا أن من غير المنطقي افتراض أن هذه الصفات هي المحفزات المثلى للعمل الجاد والثراء، أو أن المجتمع سيصبح ثريًا لو كان معظم أفراده مدفوعين بهذه الدوافع الأنانية. وتقوم مزاعم مانديڤيل على تصوره السطحي وغير الدقيق للرذيلة (والفضيلة). فهو يعادل جميع الأفعال والرغبات التي تنتج ثروةً، تتجاوز الحد الأدنى للمعيشة، بالجشع، بدلًا من أن يُصنّف منها فقط تلك التي تعتبر بأنها مُفرطةٌ بشكلٍ ما (بمعنى أرسطو)، بمعنى التي تضر بالنظام الأخلاقي والمجتمعي، فليس كل رغبة في تحسين وضع الفرد المالي تعد طمعًا فاسدًا.
إن من المنطق السليم أن نميز بين الرغبات المشروعة، وتلك التي تدفع الأفراد لتجاوز الآخرين، أو التي تشجعهم على التصرف بطرق غير أمينة، أو التي تحثهم على خرق الوعود أو تهميش العلاقات الإنسانية مثل الأسرة والأصدقاء وكل هذا بهدف جني المال. هذه هي الأنواع التي يمكن أن نصنفها بالفعل ضمن “الرذائل”، لأنها تضر بالنسيج الاجتماعي وتضعف الثقة بين الأفراد. لكن مانديڤيل، في تبريره للأسواق الحرة، يبدو أنه يعتقد أن البديل الوحيد للجشع هو التضحية بالنفس. هذا يشبه إلى حد كبير الاعتقاد بأن البديل الوحيد للشراهة هو الجوع، أو أن البديل الوحيد للجبن هو التهور.
يعجز علم النفس الأخلاقي عند مانديڤيل عن استيعاب المصلحة الذاتية العقلانية، أو الاعتراف بأن العمل وخلق القيمة هو حاجة أساسية لمعظم الأفراد، حتى لو لم يُفضِ إلى ثروة طائلة. والأمثلة هنا كثيرة: فكر في رواد الأعمال الذين يراهنون بكل مدخراتهم على مقهى جديد، أو تطبيق جديد، أو خدمة اختبار الحمض النووي، أو خدمة توصيل الطعام لموظفي المكاتب في مومباي. مانديڤيل لا يرى أي فضيلة عقلية أو أخلاقية في مثل هذه المشاريع الريادية، أو في إتمام مهمة على أكمل وجه، لأنه في رأيه، جميعها مدفوعة بالجشع والغرور.
كما يتهم مانديڤيل الصدق بأنه ضار بالاقتصاد، ويظهر بذلك ضعفَ فهمه لمبدأ أساسي في الاقتصاد: تكلفة الفرصة البديلة. ففي نسخة مبكرة لما لاحقًا سيتبناه فريدريك باستيا تحت مسمى “مغالطة النافذة المكسورة”، يجادل مانديڤيل بأن إذا أصبح الجميع صادقين، فإن أصحاب الأقفال السجون والمحامين سيفقدون وظائفهم وبذلك سيتضرر المجتمع. لكن ما يغفله هنا هو الخسائر التي يتكبدها ضحايا الخداع، وتجاهله التام للفوائد المحتملة التي يمكن أن تنشأ من غياب الخداع والرذائل الأخرى.
فإذا لم تكن هناك حاجة لدفع الأموال على أصحاب الأقفال والمحامين لحماية أنفسنا من الغش أو رذيلة أخرى، فإن الناس سينفقون هاته الأموال التي وفروها في أوجه أخرى من الاقتصاد، مثل الإقراض أو شراء السلع والخدمات الاستهلاكية. وفي الواقع، هذه الأموال ستساهم في خلق قيمة أكبر بكثير في الاقتصاد لجميع المعنيين، مقارنةً باضطرار الناس لشراء أقفال وخدمات المحامين لحماية أنفسهم. فالفوائد الاقتصادية التي ستتولد نتيجة لزيادة الثقة والصدق بين الأفراد هي أكبر من أي مكاسب قصيرة الأمد قد يحققها أولئك الذين يبيعون الحماية من الخداع. الغش يخلق ما يسمى بـ “الخسارة الميتة”، كما أن انتشاره الواسع يعيق أو يجعل التعاون والنجاح المستمرين في السوق مستحيلين.
قد تكون وجهة نظر مانديڤيل بأن الرذيلة الخاصة تؤدي إلى منفعة عامة غير متماسكة. فإذا كان الجشع يعني الرغبة في أكثر من الحد الأدنى، فلا يمكن النظر إلى الازدهار باعتباره منفعة عامة خالصة. وبقدر ما يُخفف الرخاء عن كاهل الفقراء، يمكننا أن نتفق مع ماندفيل على أنه منفعة عامة. ولكن أبعد من ذلك، مُحقًا في أن الرخاء يُغذي جشع الناس وغرورهم، فهو ضرر لا منفعة (“الخلية المتذمرة”).
ربما يعتقد مانديڤيل أن تغذية رذائل الناس لا تُضرّهم، لأن الرذيلة والضرر ينتميان إلى فئات مختلفة. إذا كان هذا هو منطقه، فإن وجهة نظره بأن الرذيلة الخاصة مفيدة علنيًا تنقذ نفسها من التناقض، لكن فقط على حساب استحالة تصديقه تمامًا. لا يجب على المرء أن يؤمن بالروح أو الإله ليؤمن بأن الصفات أو الدوافع أو الأفعال أنها رذيلة جزئيا لأنها تميل إلى تقويض راحة بال الفاعل، وتضر بشخصيته وعلاقاته مع الآخرين. علاوة على ذلك، فإن مانديڤيل نفسه يدعي أن طمع الناس وغرورهم يتركهم غير راضين وغير سعداء، بينما عندما يصبحون فاضلين، فإنهم ” ينعمون بالرضا والصدق”.
لكن آراء مانديڤيل ليست ذات أهمية تاريخية فحسب. فرغم انتقادات فرانسيس هاتشيسون وآدم سميث لمانديڤيل، فإن الخلط بين المصلحة الذاتية والجشع لا يزال شائعًا حتى اليوم. في بعض البرامج التلفزيونية، حتى ميلتون فريدمان رد على الادعاء بأن الناس في المجتمعات الرأسمالية جشعون بعبارة: “أليس الجميع كذلك؟” قبل أن يُشير إلى أن المجتمعات الرأسمالية هي المجتمعات الوحيدة التي انتشلت الجماهير من براثن الفقر.
هذا الخلط بين الجشع والمصلحة الذاتية يضر بقضية الأسواق الحرة، لأن الجشع يرتبط لا محالة بالصورة النمطية لرجل قبيح قصير النظر ذو يدين مشبكتين بالمال. وهذا صحيح، لأن فكرة حب المال (أو السلطة) بطريقة غير لائقة هي جزء لا يتجزأ من معنى الجشع نفسه.
بقلم نيرا ك. بادوار، فيلسوفة هندية وأستاذة فخرية للفلسفة في جامعة أوكلاهوما.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.