على خلاف الصراع الدارويني الذي يرى كل شخص الآخر خصمًا يجب التغلب عليه، فإن المنافسة في ظل اقتصاد السوق تجعل المنتجين أكثر “كفاءة” و”نفعًا” للمستهلكين، مما يحوّلهم إلى أصدقاء لا أعداء.
إن أولئك الذين يروّجون لفكرة أن اقتصاد السوق نظام “يفترس فيه القوي الضعيف” ينطلقون من تصور عالمٍ بموارد محددة وثابتة. ولعل هذا يبدو منطقيًا حين نتحدث عن الكائنات غير البشرية، لأنها لا تملك القدرة على توسيع الموارد الطبيعية المتاحة لتُفيد بني جنسها. وبالتالي، فإن المنافسة بينها تكون محصورة في جانب الاستهلاك: ما يربحه أحدهم يخسره آخر. لكن افتراض عالمٍ ذي موارد “مُعطاة” مضلل بشكل كبير إذا أسقطنا هذا التصور على البشر.
المنافسة الطوعية في الإنتاج
في المجتمعات القائمة على اقتصاد السوق، تسبق المنافسةُ في الإنتاج نظيرتَها في الاستهلاك، وهي المفتاح الأساس لفهم طبيعة السوق. ففي الاقتصاد الحر، لا يمكن لأي فرد أن يستهلك دون أن ينتج، أي دون أن يقدّم شيئًا للآخرين مقابل ما يرغب في الحصول عليه. وكما قال الاقتصادي الليبرالي موري روثبارد:
“لا يربح الإنسان إلا من خلال خدمة غيره… عبر التعاون السلمي في السوق… ومن خلال تطوير تقسيم العمل واستثمار رأس المال.”
تدفعنا الأسواق إلى التنافس في الإنتاج أولًا، والبحث عن سبلٍ لنفع الآخرين، كوسيلة غير مباشرة لخدمة مصالحنا الخاصة، على عكس من يسعون إلى الاستهلاك على حساب الآخرين. وقد عبّر شيلدون ريتشمان عن ذلك بقوله:
“المنافسة السائدة في السوق ليست في الاستهلاك في أغلب الأحيان، بل في الإنتاج… فنحن نتنافس في الاستهلاك من خلال التنافس في الإنتاج.”
أي أنه في الأسواق، يتنافس الناس ويزدهرون عن طريق خلق قيمة مضافة إلى السلع والخدمات المُنتَجة بما يفوق ما يتلقونه في المقابل، وخاصةً من خلال الأفكار والابتكارات الجديدة. فمثلا إذا استطعت إنتاج أداة “جديدة ومطوّرة ” بتكلفة 10 دولارات وبيعها مقابل 11 دولارًا لفرد يقيّمها بـ12 دولارًا، فإن الآخرين يحصلون على قيمة أكبر، في الوقت نفسه الذي أستفيد فيه من التبادل.
وقد وصف جورج رايزمان هذه النتيجة بقوله:
“الإنسان، بحكم امتلاكه للعقل، يستطيع زيادة المعروض من كل ما يقوم عليه بقاؤه ورفاهه. وبالتالي، فإن المنافسة الاقتصادية في ظل اقتصاد السوق هي سباق لزيادة عرض الأشياء بأكبر قدر ممكن… عبر تقديم أفضل المنتجات وأرخصها التي يستطيع العقل البشري ابتكارها… وهو ما يؤدي إلى خلق ثروات جديدة وإضافية.”
بعبارة أخرى، في الأسواق، تُكافئ المنافسة في الإنتاج من يتعاونون مع المستهلكين على نحو أفضل؛ بينما يتنافس الأفراد في الاستهلاك عبر توسيع فرص الإنتاج والثروة لصالح الآخرين.
في السوق: التعاون يؤتي ثماره
في ظلّ المنافسة في الإنتاج، يحق لأي فرد أن يعرض تعاونه بشروط محددة ومقبولة. ويكافئ هذا النظام أولئك الأكثر قدرة على تلبية رغبات المستهلكين، أيّاً كانوا. فالمنافسة تتخطى القيود التي تمنع من هم أكثر استعدادا وكفاءة للتعاون بتقديم عروض أفضل، مما يفتح آفاقًا أوسع لمن يفضلون التعامل معهم إذا أتيحت لهم الفرصة، كما أنها تمنح الأفضلية لمن يستطيع خدمة الآخرين بكفاءة أعلى.
فضلًا عن ذلك، يمنح السوق مكافأة خاصة لأولئك الذين ينجحون في إنتاج ما تريده “الجماهير”، وما هي على استعداد لدفعه، إذ يحقق هؤلاء “المحسنون” أرباحًا كبيرة لأنهم قدموا فوائد عظيمة لغيرهم، وليس على حسابهم. وبهذه الطريقة، تصبح المنافسة في الإنتاج حليفًا للفقراء، لا خصمًا لهم. إنها قوة دافعة للارتقاء الاجتماعي، وليس وسيلة لدوسهم تحت الأقدام.
اقتصاد السوق كذلك يغني عن الحاجة إلى إذنٍ بيروقراطي من مخطّط اقتصادي للسماح لأولئك الذين يرغبون في خدمة الآخرين بإنتاج سلعهم. إذ يكفي أن تقنع عددًا كافيًا من المستثمرين بأن مشروعك سيعود بالنفع على الآخرين، وفق توقعات الربح المحتمل، للحصول على الموارد اللازمة للإنتاج. وهذا ما يوسّع نطاق الأفكار والأساليب التي يمكن اختبارها في السوق، ويعزز من شدة المنافسة في الإنتاج لصالح جميع المستهلكين.
بل وأكثر من ذلك، فإن هذه المنافسة التي كثيرًا ما تُتهم بالجشع، كانت في الواقع محرّكًا لوفرة غير مسبوقة في الاستثمارات والثروات والتكنولوجيا التي جعلتنا جميعا أكثر إنتاجية من أي وقت مضى، ناهيك عن خلق كل المعجزات الطبية التي تنقذ الآن بشكل روتيني الناس من كان يُعتبر في الماضي “غير صالح للبقاء”. لقد مكّنتنا آليات منافسة السوق، لا البيروقراطية، من تحويل المستحيل إلى ممكن.
منافسة تتحدى منطق داروين
ولكي ندرك أهمية منافسة الإنتاج في ظل اقتصاد السوق؛ يكفي النظر إلى نتائج السياسات الحكومية التي تحاول “تصحيح” السوق عبر تدخلات مباشرة. خذ مثلًا تحديد سقوف الأسعار—كالتحكم في الإيجارات—أو القيود التنظيمية الثقيلة التي لا تحترم أسعار السوق والترتيبات الطوعية بين الأفراد. هذه السياسات، رغم نواياها الحسنة أحيانًا، فهي تقوّض الحوافز الأساسية التي تدفع المنتجين إلى تلبية حاجات ورغبات المستهلكين.
وقد لخّص ويليام غراهام سمنر جوهر الحرية الاقتصادية بقوله:
“الحرية تعني ضمان حق كل فرد الحصري في أن يتصرف في نتاج عمله كما يشاء. من المستحيل معرفة من أين يُستمد أي تعريف أو معيار للعدالة، إذا لم يُستنبط من هذه النظرة للأمور؛ فإذا لم تكن العدالة تعني أن ينال كلٌّ ثمار جهده وتضحياته، فمن أين يمكن أن نستقي تعريفًا للعدالة؟”
ومع ذلك، يريد المنتقدون أن يُحرم الناس من ثمرة كدهم التي جُنِيت بشقِّ الأنفس. والحل، إذًا، هو في الحرية وملكية الفرد لنتاجه، باعتبارهما الطريق الوحيد ل:
“ترك الإنسان يدير حياته المهنية بطريقته الخاصة، مع ضمان أن كل ما يفعله من كدٍّ واجتهادٍ واقتصاد وحكمةٍ وتدبيرٍ وما إلى ذلك، سوف يعود بالنفع عليه هو، ولن يتحول إلى فائدة شخص آخر”.
ثمة هوة شاسعة بين الرواية التي يقدّمها خصوم اقتصاد السوق عن عالمٍ ينهش فيه القويُّ الضعيف، وبين الحقيقة التي تقول إن اقتصاد السوق لا نظير له في قدرته على توفير سلع وخدمات أكثر وفرة وأقل تكلفة للجميع. فالغالبية الساحقة من البشر باتت تعيش حياة أفضل بفضل منافسة الإنتاج، التي تُعد – بخلاف المنطق الدارويني – نظامًا يخلق الشراكة لا العداء بين الأفراد. وفي حين ينظر الصراع الدارويني إلى الآخرين (بوصفهم مستهلكين) كخصوم، فإن اقتصاد السوق يجعل المنتجين “أصدقاء أكفاء” للمستهلكين.
بقلم: غاري إم. غالز، أستاذ الاقتصاد في جامعة بيبردين وعضو شبكة أساتذة مؤسسة التعليم الاقتصادي (FEE)
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.