إن اتباع الوصفات السياسية التي وضعها بيكيتي وشيلر لن يؤدي إلى الوئام الاجتماعي والازدهار، بل إلى الظلم وفقدان الحرية.
أحدث صدور كتاب توماس بيكيتي سنة 2013 “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” عن جامعة هارفارد ضجة إعلامية كبيرة، حيث سُلطت الأضواء على هذا الأستاذ البالغ من العمر 42 عامًا والذي يدرّس في مدرسة باريس للاقتصاد.
يدعو بيكيتي إلى فرض ضرائب تصاعدية مع أعلى معدل ضريبي يبلغ 80٪، بالإضافة إلى فرض ضريبة على الثروة، بهدف الحد من اللامساواة، الذي يرى أنها في تزايد على مستوى العالم. لكن إذا تم تنفيذ مخططه، فإن هذا “النهب القانوني” – وهو مصطلح صاغه الليبرالي الفرنسي فريدريك باستيا في القرن التاسع عشر – سيقوض سيادة القانون، التي من المفترض أن تحمي الأفراد وممتلكاتهم، وسيتم قلب مفهوم العدالة من كونه منعًا للظلم إلى أداة تستخدم القوة لفرض توزيع سياسي معين للثروة والدخل.
ورغم أن بيكيتي يدعي أنه ليس ماركسيًا، بل اشتراكيًا يؤمن بالملكية الخاصة، فإن التناقض في طرحه واضح: فلا يمكن للمرء أن يدافع عن الملكية الخاصة وفي الوقت نفسه يدعو إلى الاستيلاء على الممتلكات أو مصادرة للثروة على نطاق واسع. ويكشف بيكيتي عن توجهه الأيديولوجي عندما يقول: “يجب أن تكون الرأسمالية والأسواق في خدمة الديمقراطية، وليس العكس.”
ففي نظره، الملكية ليست حقًا طبيعيًا يسبق القانون، بل هي من صنع الدولة، وبالتالي ينبغي للأغلبية أن تستخدم سلطة الحكومة/التشريعات لفرض ضرائب باهظة على الأغنياء ومن هم على حافة الثراء، وذلك لتحقيق هدفه المتمثل في القضاء على اللامساواة، الذي يعتبره واجبًا أخلاقيًا. غير أن النتيجة المحتملة لهذا المشروع الطوباوي ستكون هروب المبدعين من البلدان ذات الضرائب المرتفعة، وإبطاء النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى إفقار المجتمعات على المدى الطويل.
والأخطر من ذلك، أنه مع توسع حجم الحكومة ونطاق سلطتها وتدخلاتها، ستتراجع الحرية الشخصية والاقتصادية. وسوف تؤدي ظواهر مثل السعي إلى الريع، الفساد، وانهيار المسؤولية الفردية، مع تآكل حقوق الملكية، إلى تقويض نسيج المجتمع المدني.
لقد صُممت الولايات المتحدة كنظام سياسي بحكومة ذات سلطات محدودة، وكجمهورية دستورية تتمثل وظيفتها الأساسية في حماية الأفراد وممتلكاتهم حتى تسود الحرية والعدالة، ولم يكن المقصود منها أن تكون دولةً معنية بإعادة توزيع الثروة.
ولا يعد بيكيتي الوحيد في سعيه لتحقيق قدر أكبر من المساواة في الدخل. فالحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والبروفيسور بجامعة ييل، روبرت شيلر، يقترح استخدام مؤشر اللامساواة لتحديد درجة تصاعدية الضرائب: فكلما ارتفع مستوى التفاوت، ارتفعت معدلات الضرائب الحدية على الدخل. وفي مقابلة له مع صحيفة وول ستريت جورنال، قال شيلر: “إذا أصبح أصحاب المليارات أكثر ثراءً، فلن نسمح بذلك. إذا كنت تريد كسب 10 مليارات دولار وإنفاقها على نفسك، فلن نسمح لك بذلك. سنأخذ جزءًا كبيرًا منها، ومع ذلك ستظل مليارديرًا، فما المشكلة إذن؟”
يفترض هذا الطرح أن الأغنياء لا يحتاجون إلى المزيد من المال، وأن للآخرين حقًا في ثرواتهم. وبعبارة أخرى، يرى أن للدولة الحق في مصادرة دخل الفرد إذا تجاوز عتبة معينة وإعادة توزيعه. وهذه هي الاشتراكية الديمقراطية بصيغتها الصريحة، حيث تنتهك مبدأ الحرية/عدم التدخل كما تفترض أن رواد الأعمال لا يستجيبون للحوافز وأن التبادلات الاقتصادية هي لعبة محصلتها صفر – بمعنى أن ما يربحه الأثرياء يكون مقابله خسارة الآخرين.
ويواصل شيلر القول بأنه إذا أراد الأغنياء التبرع بأموالهم، فيجب أن يحصلوا على إعفاء ضريبي كبير. أما بالنسبة لـ “الأنانيين الأكثر ثراء الذين لا يريدون التبرع”، فيرى أنه يجب ببساطة الاستيلاء على أموالهم. لكنه يتجاهل حقيقة أن إعادة استثمار هذه الأموال في مشاريع أصحابها أو في أماكن أخرى يخلق فرص عمل جديدة وثروة تعود بالنفع على المجتمع بأسره. كما أن للأغنياء الحق في إنفاق دخلهم بحرية كما يشاؤون.
ويُشاد ببيكيتي وشيلر لاهتمامهما بالمساوئ الناتجة عن التفاوت في الدخل، دون الاعتراف بأن مخططاتهما للمساواة ستؤدي إلى انتهاك المبادئ الأساسية للملكية والحرية، ذاتها التي تشكل السمات المميزة لعظمة أميركا.
إن إعادة توزيع الثروة لا تكون عادلة إلا إذا تمت طواعية. وكما أشار باستيا، فإن وظيفة الحكومة هي منع الظلم – أي الاستيلاء على الممتلكات – وليس فرض رؤية مثالية لما يسمى بالعدالة التوزيعية. وقد كتب المفكر التنويري الإسكتلندي العظيم، آدم سميث، الفيلسوف الأخلاقي الذي يطلق عليه أحيانًا لقب “أب الاقتصاد الحديث”، في عام 1762″: الغرض الأول والرئيسي من كل نظام حكم هو الحفاظ على العدالة؛ أي منع أفراد المجتمع من التعدي على ممتلكات بعضهم البعض أو الاستيلاء على ما ليس في ملكهم.”
إن الأخلاق الحقيقية والعدالة تتطلبان حماية الملكية، لا مصادرتها. واتباع وصفات السياسات التي يدعو إليها بيكيتي وشيلر لن يؤدي إلى تحقيق الوئام الاجتماعي والازدهار، بل سيؤدي إلى الظلم وفقدان الحرية. إن ما تحتاجه سائر الدول، هو مؤسسات تحمي حقوق الملكية وتخفض الضرائب، بحيث يتمكن الجميع من الازدهار في ظل سيادة القانون العادل والمستقر.
وفي رسم الحدود بين الفرد والدولة، ينبغي الاحتكام إلى المبادئ الأولى، لا إلى الاقتصاديين الذين تحولوا إلى نجوم إعلاميين.
جيمس أ. دورن
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.