• أبريل 29, 2025

هل الإسلام واقتصاد السوق متعارضان؟

يروج العديد من محللي العالم الإسلامي لفكرة أن عدم التوافق بين الدين الإسلامي واقتصاد السوق يعد السبب الرئيسي وراء تخلف البلدان الإسلامية. لكن لكي يتم قبول هذه الأطروحة، لا بد أن تتعارض مبادئ الإسلام بشكل جوهري مع أسس اقتصاد السوق. فهل هذا هو الحال فعلًا؟

حرية الاختيار ومشروعية السعي وراء الربح

يُقدّم الإسلام تصورًا فريدًا لدور الإنسان في الحياة باعتباره خليفة أو وكيلًا لله على الأرض، مكلفًا بتنزيل الإرادة الإلهية في إطار الالتزام بالقيم الأخلاقية والدينية وإظهار خضوعه الطوعي لله. يقول الله تعالى: “لا إكراه في الدين” (البقرة: 256)، مما يؤكد على قدسية حرية الاختيار في الإسلام، التي تُعتبر شرطًا أساسيًا لتحقق المسؤولية الفردية أمام الله. لا تقتصر هذه الحرية على الجانب العقائدي فحسب، بل تمتد أيضا لتشمل النشاط الاقتصادي، لأنه أساسا لا يوجد تعارض بين الصلاة والسعي وراء الربح. والبحث عن الربح أمر مستحب مادام يتم في إطار نشاط مشروع وأخلاقي. يقول الله تعالى: ” فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [62:10). فقد حرص الإسلام على تثمين قيمة العمل والإنتاج باعتبارهما جزءًا من العبادة. كما يقول الله تعالى في الآية 7 من سورة الشرح:» فإذا فرغتَ فانصب، وإلى ربك فارغب «، في إشارة إلى الجمع بين العبادة والعمل. بل إن النبي ﷺ اعتبر العمل المشروع عبادة توازي في قيمتها الصلاة.

في الأساس، تم الحفاظ على حرية الاختيار في الإسلام من خلال تقليص دور الدولة وتحديد نطاق تدخلها. ففي الواقع لم يكن هناك فرض إجباري للضرائب التي تقيد خيارات الأفراد، حيث اقتصرت الزكاة على كونها صدقة واجبة ذات طابع ديني. كما حدد النبي ﷺ مجال تدخل الدولة بمكافحة الغش ضمن إطار العدالة. إضافة إلى ذلك، كان النظام النقدي القائم على معياري الذهب والفضة في بدايات الإسلام يُسهم في الحد من إمكانية التلاعب بالعملة والسيطرة على خيارات الأفراد، مما جعل من المستحيل تطبيق سياسات تضخمية.

دولة القانون واحترام العقود

يتميز الإسلام بتقديره العميق للملكية الفردية واحترامه لدولة القانون، حيث لا يقتصر الأمر على مجرد الاعتراف بالملكية الخاصة، بل يُضفي عليها طابعًا مقدسًا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ” (البقرة: 188). وفي خطبة الوداع، أكد النبي محمد ﷺ على حرمة الدماء والأموال وضرورة احترامها كشرط من شروط الإيمان: “يا أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم” (رواه البخاري ومسلم). يُظهر هذا التوجيه النبوي تقدير الإسلام للملكية الخاصة واعتبارها حقًا لا يجوز المساس به إلا وفق ضوابط شرعية واضحة.

علاوة على ذلك، كان احترام دولة القانون من المبادئ الأساسية في الحكم الإسلامي خلال مراحله الأولى. فقد شدد الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه على أنه لا تجب طاعته إلا إذا كانت قراراته منسجمة مع القرآن وسنة النبي: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”. هذه المقولة تبرز احترام مبدأ المساءلة، حيث لم يكن الحاكم فوق القانون وكان خاضعًا للمحاسبة من قبل الرعية.

كما كان الفصل بين السلطات تقليدا واضحًا في النظام الإسلامي المبكر، حيث تمتع القضاة باستقلالية حقيقية عن السلطة التنفيذية، مما أسهم في سيادة العدالة واستقرار المجتمع. إلى جانب ذلك، يُعتبر احترام العقود المشروعة في الإسلام أمرًا مقدسًا ومُلزمًا من الناحيتين المدنية والدينية. يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ” (المائدة: 1). إن عدم الوفاء بالالتزامات يُعرّض المسلم للمساءلة الأخلاقية والدينية، مما يعكس مكانة العقد في الفكر الإسلامي باعتباره أداة لتنظيم العلاقات التجارية والاجتماعية وضمان الاستقرار الاقتصادي.

إن احترام هذه المبادئ لم تسهم فقط في ازدهار المجتمعات الإسلامية اقتصاديًا واجتماعيًا، بل شكلت أساسًا يمكن البناء عليه لتحقيق تنمية مستدامة قائمة على احترام الحقوق الفردية والالتزام بالقانون.

المنافسة الحرة

في الإسلام، تُعد حماية المنافسة الحرة والحفاظ على عدالة السوق من المبادئ الأساسية التي تضمن استقرار النشاط التجاري وازدهاره. وقد أكد النبي محمد ﷺ على أهمية ترك الأسعار تتحدد بحرية وفقًا لقانون العرض والطلب، وحذر من أي تدخل تعسفي في التسعير. جاء ذلك صريحًا في حديثه:” إن الله هو الذي يحدد الأسعار، وهو الذي يقبض ويوسع، وهو الرزاق”. يدل هذا التوجيه النبوي على أن تنظيم الدولة للسوق لا ينبغي أن يتجاوز مراقبة نزاهة المعاملات ومنع الممارسات الاحتيالية، مثل الغش والتدليس. فقد كان دور “المحتسب” — ممثل الدولة المسؤول عن مراقبة الأسواق — مقتصرًا على ضمان الامتثال للأخلاقيات التجارية دون التدخل في آليات التسعير.

إلى جانب رفض التحكم في الأسعار، حظرت الشريعة الإسلامية الاحتكار بشكل صارم لما له من آثار سلبية على الاقتصاد والمجتمع، من رفع للأسعار وتقليص القدرة الشرائية. وقد ورد في الحديث الشريف:» من احتكر فهو خاطئ «(يعني: فهو آثم).

لماذا هذا الانحراف عن مسار اقتصاد السوق الحر؟

شهد التقليد الاقتصادي الإسلامي المؤيد لاقتصاد السوق انحرافًا تاريخيًا نتيجة مجموعة من العوامل الهيكلية والفكرية، أبرزها الركود الفقهي والاختيارات الخاطئة للنماذج والسياسات الاقتصادية. كان إغلاق باب “الاجتهاد” منذ القرن العاشر محطة مفصلية في هذا المسار، حيث تحول الفقه الإسلامي تدريجيًا إلى إطار جامد يعيق التنمية الاقتصادية بدلًا من دعمها (تيمور كوران، 2010). في مراحلها المبكرة، أسهمت الشريعة الإسلامية في تعزيز التجارة الحرة وتطوير المشاريع الخاصة. إلا أن هذا الدور البنّاء للشريعة تلاشى مع مرور الزمن نتيجة عوامل عدة، أبرزها هيمنة السياسيين على المؤسسات الدينية واستغلالهم لعلماء الدين لترسيخ سلطاتهم. أدت هذه الهيمنة إلى ظهور هياكل دينية محافظة حجبت أي محاولات للتجديد أو الإصلاح، مما جعل الشريعة في كثير من جوانبها بعيدة عن تلبية متطلبات الاقتصاد الحديث.

بالمقابل، كان الأوروبيون في نهاية القرن الخامس عشر يشهدون تحولات فكرية واقتصادية مهمة مع مدرسة سالامانكا، التي أعادت إحياء المبادئ الأصلية للسوق الحرة ودعمت الملكية الخاصة والمبادرة الفردية. في المقابل، انصرف العالم الإسلامي نحو تبني أنماط اقتصادية تقوم على الزهد والتدخل الحكومي، ما أدى إلى فقدان القدرة على المنافسة الاقتصادية والابتكار.

أسهم الاستعمار، لا سيما من قبل فرنسا وإسبانيا، في تكريس نوع من الاعتماد على مسار مؤسسي وتشريعي ورثته الدول الإسلامية بعد الاستقلال. فقد تبنّت هذه الدول نموذج “القانون المدني” والدولة المركزية بشكل واسع، مما شكل إطارًا حاكمًا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية.

كان لهذا الإرث تأثير عميق على خيارات القادة المسلمين في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث ابتعدت العديد من الدول عن مسار اقتصاد السوق الحر. وقد تأثرت هذه الخيارات أيضًا بالتيارات الفكرية السائدة آنذاك، والتي كانت تميل إلى الاعتقاد بأفضلية النموذج الاشتراكي. يُضاف إلى ذلك تأثير السياق الجيوسياسي الذي اتسم بالحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية.

نتيجة لذلك، اتجهت معظم الدول العربية والإسلامية نحو اعتماد اقتصاد موجه من خلال سياسات تأميم واسعة للصناعات، والسياسات المالية التوسعية، وتبني إجراءات حمائية في إطار سياسات إحلال الواردات. لم تساهم هذه السياسات فقط في قطع الصلة مع التراث الاقتصادي الإسلامي الذي يتسم بالانفتاح ومبادئ السوق الحر، بل أدت أيضًا إلى أزمات مالية خانقة في ثمانينيات القرن العشرين، أبرزها أزمة الديون.

مع تفاقم تلك الأزمات، وجدت هذه الدول نفسها مضطرة لتبني برامج التقويم الهيكلي تضمنت سياسات تحرير شملت عمليات خصخصة متسرعة وغير مدروسة، حيث لم يتم توفير الشروط المؤسسية اللازمة لإنجاحها. لذلك أدت هذه الخصخصة في كثير من الأحيان فقط إلى استبدال الاحتكارات العامة باحتكارات خاصة، مما زاد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية. 

ساهمت هذه التحولات في تعزيز مشاعر الرفض وعدم الثقة لدى المجتمعات الإسلامية تجاه اقتصاد السوق. فقد بدت السياسات الاقتصادية في نظر الكثيرين وكأنها تخدم مصالح نخبة محدودة على حساب الأغلبية، بدلاً من تحقيق النمو الشامل والعدالة الاقتصادية. 

إذن المشكلة لا تكمن في عدم التوافق بين الإسلام واقتصاد السوق، بل في الانحراف عن التقليد المبكر للإسلام الموالي لاقتصاد السوق، نتيجة اختيارات سياسية وأحداث تاريخية لا تمت بصلة للقرآن الكريم أو للسنة النبوية الشريفة. فالقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الدول الإسلامية بعد الاستقلال، بما فيها التأميم، الحمائية، والاقتصاد الموجه، لم تستند إلى أي من الأصول الدينية أو المرجعيات الإسلامية الأصيلة المؤمنة بأهمية اقتصاد السوق. 

 

هشام المساوي أستاذ الاقتصاد بجامعة السلطان مولاي سليمان

Read Previous

الاقتصاد هو كل ما يتعلق بالاحتياج والملكية والعلاقات

Read Next

كيف تؤثر جودة المؤسسات على عالمنا؟