بعد عقود من الحكم الاستبدادي وحرب أهلية استمرت ثلاثة عشر عامًا دمرت البلاد، تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق حاسم في تاريخها. فقد أدى سقوط نظام الأسد الاستبدادي في ديسمبر 2024 إلى خلق فرصة غير مسبوقة لإعادة تشكيل مستقبل البلاد. وقد أبدت الحكومة الجديدة، بشكل مفاجئ، نيتها الانتقال من اقتصاد اشتراكي مركزي فاسد إلى نظام اقتصادي قائم على السوق الحر، وهو تحول أثار التفاؤل بين المواطنين ورواد الأعمال على حد سواء.
ولكن رغم الوعود الكبيرة التي يحملها هذا التحول، فإن الطريق أمام سوريا ليس مفروشًا بالورود. ففي حين أن الانفتاح على السوق والتحرير الاقتصادي يعدان خطوة نحو بناء اقتصاد أكثر مرونة ومتنوعًا، فإن هذا التحول سيواجه تحديات هائلة. فإعادة بناء المؤسسات السياسية، وتجديد الثقة الداخلية والخارجية، وإزالة العقبات الاقتصادية الضخمة، مثل العقوبات الدولية، كلها قضايا قد تضع هذا المسار في خطر.
هل يمكن لسوريا التغلب على ماضيها وضمان مستقبل مزدهر؟
ففي ظل حكم عائلة الأسد، كانت البلاد تعمل كنظام اقتصادي مركزي على غرار النمط السوفياتي، حيث كانت الشركات الحكومية تحتكر السوق، ويتم قمع الابتكار، وتقييد التجارة. تباطأ الناتج المحلي الإجمالي، وفشلت الصناعات في التحديث، وتم حظر العملات الأجنبية. كما كانت الرسوم الجمركية المرتفعة والسياسات البيروقراطية تخنق التجارة، بينما أصبح التهريب الوسيلة الوحيدة للحصول على السلع الأساسية الأجنبية. ولتفادي الحملات الأمنية، كان المواطنون يضطرون إلى استخدام مصطلحات مشفرة مثل “النعناع” أو “البقدونس” للإشارة إلى “الدولار”.
لقد زادت الحرب الأهلية الوضع الاقتصادي سوءًا، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 54% بين عامي 2010 و2021. كما فقدت الليرة السورية 99% من قيمتها، وأصبحت اليوم تُتداول بمعدل 13,000 ليرة للدولار، مما جعل شراء السلع الأساسية يحتاج إلى أكياس من الأوراق النقدية. وتأتي التكلفة الإنسانية لتكون أكثر فداحة، حيث يعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويعاني أكثر من 13 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي.
ومع ذلك، في ظل سقوط نظام الأسد وصعود هيئة تحرير الشام إلى السلطة، ظهر بصيص أمل غير متوقع، حيث تعهدت الحكومة الجديدة بالتحول إلى اقتصاد سوق حر. وإذا فعلا طبقت هذه الإصلاحات، فقد تكون سورية على وشك التعافي الاقتصادي.
بدأت الحكومة الجديدة بالإعلان عن خطوات اقتصادية شجاعة. فقد أشار باسل حموي، رئيس غرفة تجارة دمشق، إلى أن رؤية الحكومة تركز على تعزيز المنافسة والانفتاح على الأسواق. بعد سقوط النظام، انخفضت أسعار السلع الأساسية بنسبة تصل إلى 60% نتيجة لرفع القيود المفروضة على الدولار والرسوم الجمركية العالية، مما أدى إلى زيادة الواردات. أصبح السوق السوري اليوم مليئًا بالسلع الأجنبية، وهو ما كان مستحيلًا في ظل نظام الأسد الذي كان يعتمد على التهريب والسياسات القمعية.
من جهتها أعلنت هيئة تحرير الشام على مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية الموجهة نحو السوق، وتشمل تحرير تداول العملات، وخصخصة الشركات الحكومية، وتسهيل عملية نقل الأموال، بالإضافة إلى إصلاح النظام الضريبي وإزالة القيود على التجارة الدولية. وتعد هذه الإصلاحات أمرًا حيويًا لكسر حلقة الركود الاقتصادي التي استمرت لعقود، وخلق بيئة مواتية للمشاريع الخاصة.
العقبات والمخاطر: الطريق مليء بالتحديات
رغم أن الإصلاحات قد تكون بداية لفرص جديدة، فإن الطريق إلى تنفيذها ليس سهلاً. أولًا، لا يزال المجتمع الدولي يشكك في قدرة الحكومة الجديدة على تحقيق الاستقرار السياسي. لتحقيق هذا الاستقرار، يجب على الحكومة الجديدة أن تكون أكثر من مجرد تغيير في الوجوه. عليها أن تلتزم بحكم غير طائفي، وأن تضمن حقوق الأقليات والمساواة بين المواطنين، لتسهم في تعزيز الثقة داخليًا وخارجيًا.
علاوة على ذلك، تظل العقوبات الدولية أحد العوامل الرئيسية التي تعرقل التقدم. فالقانون الأمريكي “قيصر” يستهدف قطاعات حيوية مثل الطاقة والبناء، ما يجعل من الصعب جذب الاستثمارات الأجنبية أو إعادة بناء البنية التحتية. بدون تخفيف هذه العقوبات أو إلغائها بشمل كامل، ستظل سورية معزولة اقتصاديًا، مما يعيق الجهود الرامية إلى النهوض بالاقتصاد.
الحرية الاقتصادية: المفتاح الحقيقي لإعادة بناء سوريا
بينما قد يبدو الطريق إلى التعافي شاقًا، فإن التاريخ يقدم دروسًا قيمة. فقد أظهرت تجارب دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق التي انتقلت بنجاح من الأنظمة السوفياتية إلى ديمقراطيات دستورية أن الإصلاحات الجادة يمكن أن تؤدي إلى ازدهار طويل الأمد. والدرس الأساسي هنا هو أن الإصلاحات الجذرية المبنية على الحرية الاقتصادية، والشفافية، والمساءلة السياسية يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة للرفاه الاجتماعي والنمو الاقتصادي.
بالنسبة لسوريا، يجب أن يكون الأولوية هي إنشاء مؤسسات شاملة تحمي حقوق الملكية، وتلتزم بسيادة القانون، وتعزز التعددية السياسية. يجب أن تكون الحرية الاقتصادية حجر الزاوية لاستراتيجية إعادة البناء. ويعد تقليل سيطرة الدولة على الاقتصاد وتشجيع نمو القطاع الخاص أمرًا أساسيًا. كما أن فتح الأسواق للمنافسة المحلية والدولية، وتبسيط الإجراءات التجارية، وتحفيز ريادة الأعمال، خاصة بين الشباب، سيسهم في دفع الابتكار وخلق فرص العمل.
تمتلك سوريا كل المقومات اللازمة للنجاح. موقعها الاستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط، مواردها الطبيعية الوفيرة، وشعبها المتعلم يمثلون أساسًا قويًا للنهوض الاقتصادي. ولكن كل هذا يبقى مجرد إمكانات إلا إذا تم إدارته بحكمة. الطريق إلى التحول نحو اقتصاد السوق الحر ليس سهلاً، ويتطلب إصلاحات جذرية في المؤسسات السياسية والاقتصادية.
لكن، في حال تم تنفيذ هذه الإصلاحات بشكل شامل، يمكن لسوريا أن تتحول إلى نموذج إقليمي للنمو والاستقرار، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل على مستوى العالم. إن الشراكات الاقتصادية مع دول المنطقة والغرب ستكون حاسمة في تحقيق هذا الهدف. فإذا ما تم تعزيز الاستقرار السياسي، وإلغاء القيود التجارية، ورفع العقوبات، فسيمكن لسوريا أن تبدأ مرحلة جديدة من النمو المستدام.
في النهاية، يمكن لسوريا أن تتحول إلى دولة مزدهرة في المنطقة، ولكن النجاح يعتمد على قدرة الحكومة الجديدة على الابتعاد عن نهج الحكم الاستبدادي، والتحول الفعلي نحو سياسات منفتحة، وعادلة، قائمة على سوق حر يتيح للشعب السوري استعادة ما فقدوه من آمال وأحلام.
محمد مطيع كاتب وباحث اقتصادي