تقوم أخلاقيات الفضيلة، كما وصفها آدم سميث، على تشكيل سلوك الأفراد وتهذيبه، مع مراعاة التعقيد وغموض المواقف البشرية) المواقف الرمادية (واختلاف الأذواق والمشاعر. تتميز منظومة الأخلاقيات عند سميث بالمرونة والتنوع، مما يجعلها متوافقة مع طبيعة الأسواق الحرة والمجتمعات الحرة. وهي لا تُفرض من قبل الدولة أو من خلال التشريعات، بل تُفعَّل من خلال آليات اجتماعية مثل الثناء واللوم والإدانة. إنها أخلاقيات خاصة، حيث تُعزز الفضيلة بشكل أفضل من قِبل الأفراد والمنظمات الخاصة الذين يُنتجون المعايير الاجتماعية ويتصرفون في إطارها وفي حدود اللياقة الاجتماعية.
ما هو التعاطف؟
يعد التعاطف حجر الزاوية في نظرية سميث الأخلاقية. فمن خلال خيالهم، يستطيع الناس أن يضعوا أنفسهم مكان الآخرين. كما يقول سميث:
“ مهما افترضنا أن الإنسان أناني، فلا بد أن هناك شيئًا ما يجعله يهتم بمصير الآخرين، ويجعل سعادتهم ضرورية له، رغم أنه لا يجني منها شيئًا سوى متعة مشاهدتها… وبما أننا لا نملك تجربة مباشرة لما يشعر به الآخرون، فلا يمكننا أن نكوّن فكرة عن الكيفية التي يتأثرون بها، إلا من خلال تخيل ما قد نشعر به نحن لو كنا في نفس الموقف.”
يستخدم سميث مصطلح “التعاطف” كما نستخدم اليوم مصطلح “التعاطف الوجداني” (empathy). فالتعاطف لا يعني بالضرورة الموافقة على شعور أو تصرف الآخر، بل يعني فهمًا أو مشاركة لمشاعر ودوافع الآخرين، وما الذي ينبغي أن يشعروا به أو يسعوا إليه. إننا لا نشعر فقط بما يشعر به الآخر، بل نحاول أيضًا تقدير إن كانت تلك المشاعر أو الأفعال مناسبة أو لا. ولكن، لماذا يُعد التعاطف بشكل طبيعي مع بعضنا البعض أمرًا مهمًا؟ وكيف نحوله إلى أحكام أخلاقية ملموسة؟ يوضح سميث أربع طرق أو زوايا يمكننا من خلالها الحكم على تصرفات الآخرين:
1. نتعاطف مع دوافع الفاعل.
2. نشارك امتنان من استفاد من أفعاله.
3. نلاحظ مدى توافق تصرفه مع القواعد العامة التي تعمل بها هاته المشاعر (الدافع والامتنان) عادة
4. وأخيرًا عندما نعتبر مثل هذه الأفعال جزءًا من منظومة سلوكية تهدف إلى تعزيز سعادة الفرد أو المجتمع، فإننا نراها تكتسب جمالًا نابعًا من منفعتها، شبيهًا بالجمال الذي ننسبه إلى آلة مصممة بعناية.
كيف نتعلم إصدار هذه الأحكام الأخلاقية المعقدة؟
يرى سميث أن التعاطف فطري ومُكتسب في آنٍ واحد. فالناس بطبيعتهم يتأثرون تلقائيًا بمعاناة الآخرين ويشعرون بالفرح لسعادتهم. حتى الأطفال الصغار يلتقطون الإشارات الوجهية أو اللفظية من البالغين المحيطين بهم ويستجيبون لها. ويقدم سميث مثالًا رائعًا عن كيف يتعلم الأطفال من خلال وجودهم مع أقرانهم:
“حين يبلغ الطفل من العمر ما يتيح له الذهاب إلى المدرسة أو الاختلاط بأقرانه، يكتشف سريعًا أن هؤلاء لا يمنحونه نفس القدر من التساهل والانحياز العاطفي الذي اعتاد عليه من والديه أو المربّيات. وبطبيعة الحال، سيسعى لكسب رضاهم وتجنب بغضهم واحتقارهم. بل إن مجرد حرصه على سلامته يدفعه إلى ذلك. وسرعان ما يدرك أنه لا يمكنه تحقيق هذا الهدف إلا من خلال كبح جماح غضبه، بل وجميع انفعالاته الأخرى، إلى الحد الذي يرضي زملاءه في اللعب. وهكذا يدخل إلى ‘مدرسة ضبط النفس الكبرى’، وهي تربية نادراً ما يكفي عمر كامل لإتقانها بالكامل.”
مدرسة ضبط النفس ليست مخصصة للأطفال فقط. فالعيش وسط الآخرين يتطلب منا أن نضبط انفعالاتنا حتى لا نُعتبر تافهين أو لا نتعرض لانتقادات شديدة. والتعاطف المتبادل مع الآخرين يساعدنا على تمييز ما إذا كانوا يتصرفون بشكل حسن أو سيئ. فنحن نوافق أو لا نوافق على ما يفعلونه، وهم بدورهم يوافقون أو لا يوافقون على ما نفعله نحن. وهذه الموافقة تُعد حكماً أخلاقياً. فنعتقد أن سلوك شخص ما يخدم هدفًا خيّرًا أو يتماشى مع مبدأ صائب. فنحن جميعاً نعيش داخل مجتمعات أخلاقية.
»دعه يعمل دعه يمر « لا تعني غياب الأخلاق
حتى في ظل الحرية الفردية الواسعة، لا يمكن لأي فرد أن يتوقع أن يعيش بمنأى عن الإدانة الأخلاقية أو النقد الاجتماعي.
لا ينبغي أن نكون متسيّبين أو نتبع نهج “دعه يعمل دعه يمر” عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأخلاقية مثل العنف والإكراه. المطالبة بألا تفرض الدولة نسقًا معينًا من الفضائل أو القيم على المجتمع لا تعني أن القيم الصحيحة غير موجودة، أو أن كل السلوكيات قابلة للقبول.
ورغم أن الناس أحرار في خرق الأعراف والتقاليد الاجتماعية، إلا أنهم لا ينبغي أن يتوقعوا أن يعيشوا في فراغ أخلاقي بمنأى عن إدانة أو استنكار أو رفض الآخرين، أو أن ينالوا القبول المطلق من الجميع. فالمجتمعات الحرة لا تقوم على اللامبالاة أو النسبية الأخلاقية، بل على العدالة—بما في ذلك التسامح—والاحترام المتبادل. لا يكفي أن نسمح للناس بحرية المعتقد أو أسلوب الحياة، بل يجب أن نعي أن الحرية لا تعني المصادقة المطلقة على أي سلوكيات أو اختيارات أي شخص في الدين أو المهنة أو أسلوب الحياة، بل هي تعني القبول بوجود التعدد والاختلاف، ضمن إطار من الاحترام والمحاسبة الأخلاقية بين الأفراد، لا من خلال قمع الدولة.
بقلم: بول د. مولر، أستاذ مساعد في الاقتصاد، كلية الملك (The King’s College)
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://www.libertarianism.org/columns/adam-smiths-ethics-sympathy