• يوليو 1, 2025

الرأسمالية المحابية واقتصاد الكذابين

تعتمد الأسواق الحرة على الصدق. فلا بدّ أن تعكس الأسعار تقييمات المستهلكين، وأن تشكّل أسعار الفائدة مؤشرات موثوقة لرواد الأعمال لتوزيع رأس المال على امتداد الزمن، وأن تعبّر الحسابات المالية للشركات عن القيمة الحقيقية لأنشطتها. غير أننا، بدلاً من ترسيخ ثقافة الصدق، أصبحنا نعيش في ظل “اقتصاد الكذابين”. والسبب في ذلك واضح وجلي: الرأسمالية المحابية (المعروفة أيضاً برأسمالية المحسوبيات).

كان الكلاسيكيون الليبراليون يرون أن مهام الدولة ينبغي أن تقتصر على ثلاث وظائف: (1) الدفاع عن الوطن، (2) حماية الأفراد والممتلكات من العنف والاحتيال، و(3) توفير المنافع العامة التي يعجز السوق عن تقديمها. وقد عبّرت وثيقة إعلان الاستقلال الأميركية عن هذا التصور، كما جُسّد في دستور الولايات المتحدة.

وبينما تعدّ حماية المواطنين من العنف، سواء في الداخل أو الخارج، الوظيفة الأساسية للدولة، فإن حمايتهم من الاحتيال لا تقل عنها أهمية وتُعد وظيفة مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا. فالسارق يغتصب ما لا يحق له بالقوة، أما المحتال فيسلبه خلسةً. والدولة اليوم قد فشلت فشلًا ذريعًا في أداء هذه الوظيفة الجوهرية.

فما الذي حدث؟ لقد فشلت هيئات الرقابة المالية في إنفاذ القوانين واللوائح المتعلقة بمكافحة الغش والاحتيال. ولعلّ قضية برنارد مادوف تُعد المثال النموذجي لتجسيد هذا الفشل، مثلما تُجسّده هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية التي تجاهلت الأدلة التي قُدّمت إليها. وقد سمحت الجهات المنظمة للمصارف بانتشار نوع من القروض العقارية سُمّي بـ”قروض الكذابين”. وهكذا دواليك.

إن الفكرة القائلة بأن تكديس القوانين واللوائح يحمي المستهلكين والمستثمرين هو أحد أعظم الإخفاقات الفكرية في القرن العشرين. فكل قاعدة ثابتة يمكن التحايل عليها أو التلاعب بها لتفادي تطبيقها. والأجدر من سنّ القواعد بلا نهاية، هو الالتزام بمبدأ محاسبي تقليدي مفاده أن على المرء واجبًا أخلاقيًا بتقديم صورة عادلة ودقيقة عن وضعه المالي، بغضّ النظر عمّا تسمح به القوانين. كما ينبغي أن تتحمل المؤسسات المالية مسؤولية العناية بمصالح عملائها. وقد أخبرني بعض المحامين أن هذا يُقربنا من المنهج القانوني الأنجلو-ساكسوني في التعامل مع الاحتيال والمعاملات السيئة.

وقد كشفت نظرية “الاختيار العام” عن جذور فشل التنظيم، التي تتمثل في وقوع الهيئات الرقابية تحت سيطرة الجهات التي من المفترض أن تراقبها. إذ تبدأ هذه الوكالات التنظيمية في التماهي مع مصالح القطاع المنظم بدلًا من حماية الصالح العام الذي كُلّفت بحمايته. وقد وصف الاقتصادي وليم بوتر في ورقة بحثية نُشرت عام 2008 ظاهرة “ الاستلاب الإدراكي “، حيث يعجز المنظّمون عن التفكير خارج إطار منطق ومصالح القطاع التي ينظمونها.

تتشابك مصالح شركات الصناعة والحكومة، وتساهم التنظيمات في تقوية الروابط بين هاته المصالح. فتنجح الشركات من خلال مجاملتها وتوافقها مع للسياسيين والمنظمين، والعكس صحيح، عبر “الباب الدوار”. وهذا النظام ليس سوقًا حرّة، بل “رأسمالية محابية”؛ نظام أقرب في طبيعته إلى نموذج موسوليني منه إلى أفكار آدم سميث.

وقد وصف الاقتصادي الحائز على نوبل، فريدريش هايك، نظام الأسعار بأنه “آلية لنقل المعلومات”، حيث تحدد الأسعار من خلال التفاعل بين المنتجين والمستهلكين، فتعكس التقييمات النسبية للسلع والخدمات. إلا أن الدعم المالي الحكومي يشوّه هذه الأسعار ويؤدي إلى سوء تخصيص الموارد (وفقًا لتفضيلات المستهلكين وتكاليف الفرصة البديلة للمنتجين). وهكذا، لا تعود الأسعار تعكس القيم الحقيقية، بل تعكس قيماً مشوّهة.

أما معلم هايك، لودفيغ فون ميزس، فقد تنبأ في ثلاثينيات القرن الماضي بفشل الشيوعية لأنها لا تعتمد على نظام الأسعار في تخصيص الموارد. وقد توقّع أن يتم إنتاج السلع الخاطئة: فإما إفراط في بعض السلع أو ندرة في أخرى. وقد أثبت التاريخ صحة توقعه.

واليوم، تبتعد الولايات المتحدة عن الاعتماد على التسعير النزيه. إذ تهيمن مثلا الحكومة الفيدرالية على 90% من تمويل الإسكان، وتؤدي سياسات الاحتياطي الفيدرالي التي تقوم على خفض أسعار الفائدة إلى اختلال توزيع رأس المال عبر الزمن. ويتجلى ذلك بوضوح في قطاع الإسكان، نظرًا لأن أي مسكن يُعد من الأصول طويلة الأجل البارزة التي تزداد قيمتها مع انخفاض أسعار الفائدة.

لقد فقدت الأسعار وأسعار الفائدة دورها كمؤشرات دقيقة على الأهمية النسبية للسلع. وتضمن الرأسمالية المحابية حصول بعض الشركات والقطاعات المحمية على تمويل مميز. وعندما تفشل هذه الشركات في أداء المهام الموكلة إليها من طرف السياسيين، يتم إنقاذها من الخسارة. وهذا ما يولّد “مشكلة التواكل” التي تشكل خطرا أخلاقيا، ويمهّد لمزيد من عمليات الإنقاذ في المستقبل. كما أن الشركات الخاسرة قد تلجأ إلى الحيل المحاسبية لإخفاء خسائرها.

وإذا أردنا استعادة حريتنا الاقتصادية واسترجاع السوق الحرة ذات الإنتاجية الرائعة، فعلينا أن نعيد الاعتبار لقيمة الصدق إلى الأسواق. وهذا يتطلب إنهاء الدعم الذي يشوّه الأسعار، بما في ذلك أسعار الفائدة المنخفضة المصطنعة. لا أحد يعلن صراحة تأييده للرأسمالية المحابية، لكنها تترسخ بفعل ممارسات الحكومة التنظيمية المتوسعة. والأفضل من ذلك هو الالتزام الصارم بمبادئ إيجابية تقوم على الصدق في البيانات المحاسبية، وتحمل المؤسسات المالية مسؤولية رعاية مصالح عملائها. أما التحرر الاقتصادي من التنظيمات فهو ضرورة مطلقة للخروج من نفق الرأسمالية المحابية.

 

بقلم جيرالد بي. أودريسكول الابن، زميل أقدم في معهد كاتو

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

Read Previous

الأحزاب العقائدية العربية والفشل في بناء دول التنمية والحكم المدني

Read Next

الأسس الخاطئة للماركسية وتضليل الشعوب