في أنحاء العالم، أكثر من مليار شخص– معظمهم في البلدان الفقيرة – لا يحصلون على مياه نظيفة وآمنة. ويُسهم هذا النقص في استمرار الفقر والأمراض والموت المبكر. لكن الحقيقة أن العالم لا يعاني من ندرة مائية بالمعنى الحرفي؛ فنحن نستهلك فقط نحو 8% من إجمالي المياه المتاحة للاستهلاك البشري. المشكلة الحقيقية تكمن في السياسات السيئة. فحتى مدينة تشيرابونجي الهندية، أكثر الأماكن مطرًا على وجه الأرض، تعاني من نقص متكرر في المياه!
في الدول الفقيرة، تدير الحكومات نحو 97% من شبكات توزيع المياه، وهي المسؤولة في المقام الأول عن حرمان أكثر من مليار شخص من هذا المورد الحيوي. لجأت بعض حكومات الدول الفقيرة إلى القطاع الخاص للحصول على المساعدة، وغالبًا ما جاءت النتائج إيجابية. ففي البلدان الفقيرة التي سمحت بالاستثمار الخاص في قطاع المياه، ارتفعت نسبة السكان الذين يحصلون على مياه نظيفة مقارنة بالدول التي لا توجد فيها مثل هذه الاستثمارات. كما أثبتت التجارب المحلية أن الشركات الخاصة للتوزيع – بفضل كفاءتها الأفضل، وحوافزها القوية، وقدرتها على الاستثمار – نجحت في تحسين جودة المياه وتوسيع نطاق توزيعها. ملايين البشر الذين لم تكن تصلهم شبكات المياه أصبحوا اليوم يحصلون على مياه نظيفة وآمنة بالقرب من منازلهم.
رغم ذلك، أثارت خصخصة المياه جدلًا واسعًا وموجات من الاحتجاجات العنيفة والعصيان في مناطق مختلفة من العالم، بمساندة من منظمات غير حكومية غربية مناهضة للسوق الحرة، واتحادات عمالية تخشى خسارة امتيازاتها. لكن معظم هذه الاعتراضات مبنية على سوء فهم. أبرز حجة يرفعها معارضو الخصخصة هي أن دخول الشركات الخاصة سيرفع أسعار المياه، ما يجعلها غير ميسورة للفقراء. في بعض الحالات ارتفعت الأسعار فعلًا بعد الخصخصة، وفي حالات أخرى لم ترتفع. غير أن التركيز على أسعار المياه لمن هم أصلًا متصلون بالشبكة ليس هو القضية الجوهرية؛ المشكلة الحقيقية تخص أولئك الذين لا تصلهم المياه إطلاقًا –وهم عادة الأشد فقرًا في البلدان الفقيرة. هؤلاء هم الأشخاص الذين يموتون عادةً، ويعانون من الأمراض، ويظلون محاصرين في الفقر.
هؤلاء عادةً ما يشترون مياهًا منخفضة الجودة من باعة متجولين بأسعار تفوق في المتوسط 12 ضعف سعر المياه من الشبكة الرسمية، وغالبًا أكثر من ذلك. وعندما تُرفع أسعار المياه قليلًا للمشتركين الحاليين، تحصل الشركات على الموارد والحوافز اللازمة لتوسيع الشبكات والوصول إلى هؤلاء المحرومين. أما حين تبقى الأسعار منخفضة إلى درجة لا تغطي تكاليف مدّ الأنابيب الجديدة، فإن كل مشترك جديد يعني خسارة للشركة، مما يجعل الموزع غير راغب في توسيع الشبكة. لذا، قد يؤدي رفع الأسعار إلى تمكين الفقراء من الحصول على مياه أرخص وأكثر أمانًا.
هناك حجة أخرى، أقل وجاهة، تطرحها حركة مناهضة الخصخصة. فبما أن الماء يُعتبر حقاً إنسانياً، وبما أننا نموت إذا لم نشرب، فإن توزيعه يجب أن يتم بطريقة ديمقراطية؛ أي أن يبقى في أيدي الحكومة، لا أن يُسلم إلى جهات خاصة تسعى إلى الربح. لكن هذا المنطق يتجاهل حقيقة بسيطة: الغذاء أيضًا حق إنساني، والناس يموتون أيضاً إن لم يأكلوا، ومع ذلك لا يطالب أحد بأن تنتجه الدولة وحدها. بل إن الدول التي حاولت إنتاج الطعام “ديمقراطيًا” انتهى بها الأمر إلى انعدام الطعام والديمقراطية معًا.
لقد أدى الضغط المناهض للخصخصة ورفض توسيع دور المبادرة الخاصة والسوق في توزيع المياه في البلدان الفقيرة إلى تحقيق ما كان يريده المحتجون بالفعل: فقد تباطأت وتيرة الخصخصة، وهو ما يعني استمرار حرمان الملايين من المياه. ما نحتاجه ليس شعارات عاطفية، بل نقاش عقلاني قائم على الحقائق. نعم، بعض عمليات الخصخصة فشلت بسبب فقد غاب الإشراف الجيد، وكانت الهيئات التنظيمية المسؤولة عن تنفيذ العقود إما غير موجودة أو غير كفؤة أو ضعيفة جداً. كما صُممت العقود بشكل سيئ، وكانت عمليات المناقصة غير دقيقة. لكن هذه الأخطاء لا تشكل حججاً قوية ضد الخصخصة بحد ذاتها، بل ضد الخصخصة السيئة. لذلك، يجب أن ندير نقاشاً حول كيفية جعل الخصخصة تعمل بشكل أفضل، بدلاً من رفض الفكرة كلياً.
لقد أنقذت مشاركة القطاع الخاص في توزيع المياه أرواحًا كثيرة في تشيلي والأرجنتين، وكمبوديا والفلبين، وغينيا والغابون. وهناك ملايين آخرون ينتظرون فرصة النجاة نفسها.
بقلم فريدريك سيغيرفلت، مؤلف كتاب «الماء للبيع: كيف يمكن للأعمال والسوق أن يحلّا أزمة المياه العالمية» (معهد كاتو).
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.