لا تُرضي المقاربة التحررية الجميع، لكنها تقدم توازنًا واقعيًا في المفاضلة بين العدالة والكفاءة.
تقوم المجتمعات الحديثة بإعادة توزيع الدخل بطرق لا حصر لها. بعضها موجه فعلًا لمكافحة الفقر، في حين أن سياسات أخرى تعيد توزيع الدخل لصالح الطبقة المتوسطة، أو تعيد توزيع الدخل من الأغنياء إلى الفقراء عبر مختلف مستويات الدخل. وتتخذ هذه السياسات أشكالًا متعددة على المستويين الفيدرالي والولائي، من تحويلات نقدية، إلى خدمات عينية، إلى قسائم دعم. كما أن هناك أيضًا سياسات أخرى تتدخل في أسواق محددة بحجة “العدالة التوزيعية”.
لكن في “أرض التحرريين“، الصورة مختلفة تمامًا.
إعادة التوزيع هناك محدودة، ومقصورة فقط على سياسات تساعد الفقراء بشكل مباشر؛ ولا توجد أي سياسة تهدف إلى إعادة التوزيع بشكل واسع من الأغنياء إلى الفقراء. ويعكس هذا النهج التوازنات الأساسية بين العدالة والكفاءة في السياسات التي تسعى إلى إعادة التوزيع. هناك تكلفة حقيقية لأي سياسة تسعى لتحقيق العدالة التوزيعية، وهي غالبًا ما تأتي على حساب الكفاءة.
مساعدة الفقراء: منطق مقبول ومُتفق عليه
برامج مكافحة الفقر تمتلك مبررات معقولة. فمعظم الناس يفضلون عالمًا يقل فيه الفقر المدقع، وكثيرون – لو خُيّروا من خلف “حجاب الجهل” كما يقترح جون رولز – سيختارون التأمين ضد احتمال ولادتهم فقراء. لذا، فإن توفير شبكة أمان اجتماعي لحماية الفقراء قد يصب في مصلحة الجميع، الفقراء وغير الفقراء على حد سواء.
صحيح أن للمجتمعات الحديثة تقاليد قوية في العطاء الخيري )عبر مؤسسات دينية ومنظمات كـ”أطباء بلا حدود”، “الصليب الأحمر”، “مأوى الإنسانية”. والمطاعم المجانية، وغيرها)، إلا أن الجهود الخيرية الخاصة وحدها قد لا تكون كافية لتحقيق ما تعتبره المجتمعات مناسباً أو عادلاً.
لكن إعادة التوزيع الواسعة… لا تقنع
يختار بعض خريجي كلية الحقوق في هارفارد وظائف منخفضة التوتر وبمجهود محدود ورواتب معتدلة؛ بينما يختار آخرون العكس تماماً. ولا يُعتبر أي من المجموعتين أكثر استحقاقاً من الأخرى. وبشكل عام، تعود الفروقات في الدخل جزئياً إلى الحظ، ولكنها تعكس أيضاً المهارة، والجهد، وروح المخاطرة، وتفضيل الترفيه على العمل.
لكن إعادة التوزيع تخلق آثارًا سلبية: حيث تثبّط من الحوافز للعمل والادخار، وتُعزز فكرة أن انخفاض الدخل دائمًا نتيجة “سوء الحظ”. وهذا يُضعف أخلاقيات العمل في المجتمع، ويُشجع على السعي وراء الإعانات بدل الابتكار والإنتاجية. كما أن السياسات التوزيعية الواسعة النطاق غالبًا ما تُقسّم المجتمعات وتُشيطن الأغنياء. لهذا السبب، يعارض بعض سكان “أرض التحرريين” أي شكل من أشكال إعادة التوزيع. ومع ذلك، فإن كثيرين منهم يؤيدون الإنفاق على مكافحة الفقر، بشرط أن يظل ضمن حدود معقولة. ومن أجل تحقيق توازن بين مزايا ومساوئ برامج مكافحة الفقر، تفوض «أرض التحرريين «كل هذه السياسات لحكومات الولايات بدلاً من الحكومة الفيدرالية.
تفويض السياسات للولايات… لا للحكومة الفيدرالية
حسب الفكر التقليدي، يفترض أن هذه الرؤية قد تؤدي إلى “سباق نحو القاع”، حيث تحاول كل ولاية “تصدير” أو تنفير فقرائها من خلال تقليص شبكات الأمان الاجتماعي إلى حدها الأدنى. لكن الواقع التاريخي لا يدعم هذا الخوف: العديد من الولايات أنشأت برامج مكافحة فقر حتى قبل تدخل الحكومة الفيدرالية في ثلاثينيات القرن الماضي. كانت هذه البرامج متواضعة مقارنة بالمعايير الحديثة، لكن ذلك يعكس جزئياً المستوى المعيشي المنخفض في تلك الحقبة. واليوم، هناك ولايات تقدم دعمًا اجتماعيًا أكثر سخاءً من مما تفرضه القوانين الفيدرالية.
وحتى لو وُجد هذا “السباق نحو القاع”، فإنه يمكن أن يؤدي دورًا مفيدًا، حيث يُقابل أو يعوض ميل السياسات التوزيعية إلى التوسع المفرط، سواء بسبب ضغط الناخبين ذوي الدخل المنخفض القريبين من خط الفقر أو بسبب ما يُعرف بـ”انحراف المهمة” داخل البيروقراطيات الحكومية الذي يؤدي إلى توسع المهام من جانب القائمين على هذه البرامج. والحقيقة أن برامج مثل “ميديكير” و”ميديكيد” و”الضمان الاجتماعي” تتجه نحو مسار مالي غير مستدام، وبالتالي فإن وجود قوة معاكسة لذلك الاتجاه يعد أمراً ضروريًا.
تحويلات نقدية فقط… لا تدخلات سوقية
في “أرض التحرريين “، تركّز برامج مكافحة الفقر على التحويلات النقدية المباشرة، بدلاً من التحويلات العينية مثل مشاريع الإسكان، أو الرعاية الطبية التي توفرها الحكومة، أو المدارس الحكومية. ويُعدّ هذا التحويل النقدي أفضل للمستفيدين، لأنه يمنحهم حرية التصرف بما يناسب احتياجاته، ما يمنحهم مرونة أكبر في إنفاق الأموال. كما أن هذا النهج يضمن الشفافية في مقدار الأموال المُحوّلة، ويتجنب التداخلات المعقّدة بين السياسات المختلفة، ويُقلّص من حجم البيروقراطية. ويجعل حجم المساعدة شفافًا، ويقلل من البيروقراطية والتعقيد. كذلك، فإن التحويلات النقدية تتفادى القضايا الخلافية مثل ما إذا كان ينبغي لبرنامج Medicaid أن يمول عمليات الإجهاض أم لا.
مفاضلة لا مفر منها: العدالة مقابل الكفاءة
مقاربة “أرض التحرريين ” فيما يخص إعادة توزيع الدخل لن تُرضي الجميع. فهناك من يريد مزيدًا من إعادة التوزيع، وهناك من يريد إلغاءها بالكامل. لكنها – في النهاية – تقدم التوازن المناسب، لأنها تعترف بأن هناك دومًا مفاضلة لا مفر منها بين العدالة والكفاءة. أكثر من ذلك، فإن سياسات مكافحة الفقر على مستوى الولايات تتجنب التدخل في الأسواق بشكل مباشر. وهذا ما يسمح بتجنب محاولات غير فعالة وسيئة الاستهداف لإعادة توزيع الدخل، مثل فرض الحد الأدنى للأجور، وحماية النقابات، وحصص الهجرة، وحظر التسعير حسب ذروة الطلب للكهرباء، وضوابط الأسعار على الأدوية. ورغم غياب إعادة التوزيع على المستوى الفيدرالي، وانخفاض مستوى الإنفاق على مكافحة الفقر، فإن الاستياء من توزيع الدخل أقل انتشاراً في “أرض الحرية” مما هو عليه في المجتمعات الحديثة.
تُعزى الفروقات في الدخل إلى المهارة، وتحمل المخاطر، وتفضيلات الأفراد بين العمل والترفيه، وغيرها من جوانب الإنتاجية. لذا قلة من الناس يعترضون على ما يجنيه مبتكرون مثل ستيف جوبز، أو رجال أعمال مثل وارن بافيت أو أوبرا وينفري، أو نجوم رياضيون مثل ليبرون جيمس، أو نجوم ترفيهيون مثل توم هانكس أو بيونسيه.
الغضب الحقيقي في المجتمعات الحديثة يأتي من الفروقات في الدخل الناتج عن السياسات الظالمة: قيود الترخيص المهنية، قوانين استخدام الأراضي، الدعم الحكومي، الضرائب المعقدة، ورأسمالية المحسوبية. كل هذا… لا وجود له في “أرض التحرريين “. (Libertarian Land)
بقلم جيفري ميرون – نائب الرئيس للأبحاث في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://www.cato.org/commentary/limit-income-redistribution-help-only-poor