نعيش اليوم في زمنٍ يُنظَر فيه إلى طباعة النقود على أنها حلّ سحري لكل أزمة. السياسيون يتحدثون وكأن الثروة تخلق بمرسوم، والبنوك المركزية تغرق الاقتصادات بأوراقٍ نقدية مزيّفة، مدّعيةً أن هذه الأوراق تمثل قوة حقيقية. لكن من يعرف ماهية رأس المال، وكيف يتكوَّن على الحقيقة، يدرك أن الأمر أبعد من الحبر والأرقام. الاقتصاديون النمساويون، أمثال ميزس وروثبارد وهوبه، فهموا أن الثروة الحقيقية لا تنشأ من النقود المطبوعة، بل من الادّخار، والبناء، والإنتاج.
رأس المال ليس مجرد مالاً خاملاً في الحسابات البنكية. إنه أشياء حقيقية: آلات، أدوات، مواد أولية، بنى تحتية؛ أي الوسائل التي تجعل الإنتاج ممكناً. وهذه لا تأتي صدفة، ولا تهبط من السماء. إنها تُكتسب بالكدّ، وتتطلب التضحية بالحاضر من أجل المستقبل. فمن أراد تكوين رأس المال وجب أن يُمسك عن الاستهلاك المباشر، وأن يدّخر، ثم يوجّه ادّخاره نحو النشاط المنتج. بدون ذلك، لا تقدّم مستدام ولا ازدهار.
تجربة روبنسون كروزو
لتقريب الصورة وفهم كيفية تكوين رأس المال، فلنستدعي التجربة الفكرية المشهورة المعروفة بـ “اقتصاد روبنسون كروزو”. تخيّل روبنسون كروزو وحيداً في جزيرته. في البداية، كان يعيش بصيد السمك بيديه. طريقة متعبة وغير فعّالة، يعمل يوماً كاملاً ليحصّل قوت يومه بالكاد. ثم خطرت له فكرة: إن صنع شبكةً، فسيصطاد المزيد من الأسماك وبجهد أقل. لكن بناء الشبكة يستلزم وقتاً، وهذا يعني التوقف عن الصيد لبعض الوقت، ما قد يعرّضه للجوع. هنا يظهر معنى التضحية الحاضرة لأجل المنفعة الآتية. أي أن يؤجّل استهلاكه ليُكوّن مدّخرات. هذا هو الادّخار. هذا هو الاستثمار. هذه هي عملية تكوين رأس المال.
وبعد أن أنجز الشبكة، ارتفعت إنتاجيته. صار لديه فائض: يمكنه أن يأكل أكثر، أن يرتاح أكثر، وأن يصنع أدوات أخرى. لقد أصبح أكثر ثراءً، لا لأنه وجد أسماكًا إضافية بالصدفة، ولا لأن شخصًا ما أسقط في حضنه المزيد من الأصداف (على افتراض أنه لم يكن الوحيد في الجزيرة وكانوا يستخدمون الأصداف كوسيلة تبادل)، بل لأنه أنتج شيئاً جديداً. لقد ادّخر، وبنى، وحسّن حاله.
لكن، تخيّل الآن روبنسون كروزو نفسه، لكن هذه المرة يأتي شخص ما ويضاعف عدد الأصداف التي يستخدمها كعملة. هل يصبح كروزو فجأةً أكثر ثراءً؟ لا. الشبكة لم تظهر من العدم. السمك لم يصبح أسهل في الصيد. الأصداف الإضافية غيّرت فقط الطريقة التي يُقيّم بها الأشياء. فإذا صدّق أنه صار أغنى، فقد يُسرف في الاستهلاك. لكن عندما يكتشف أن السلع لم تتضاعف، سيكون في ورطة.
هذا هو التضخم. وهذا بالضبط ما تفعله البنوك المركزية عندما تُغرق الاقتصادات بالنقود الورقية. فهي لا تخلق رأس مال، بل تزرع فقط الارتباك. تهبط قيمة النقود، وترتفع الأسعار. والمدخرون – أولئك الذين امتنعوا عن الاستهلاك وحاولوا البناء – يخسرون ثمرة كفاحهم. أما النقود الجديدة؟ فهي تذهب أولًا إلى الحكومات، إلى البنوك، وإلى أصحاب النفوذ السياسي. وما يتبقى من الفتات يصل إلى عامة الناس بعد أن يكون قد فقد قيمته.
روثبارد سمّى ذلك باسمه: إنه سرقة. التضخم ضريبة خفيّة، ينقل الثروة من الحريصين إلى المسرفين، ويعاقب الادّخار. وبدون ادّخار لا رأس مال، وبدون رأس مال لا إنتاج مستدام، وبدون إنتاج لا اقتصاد حقيقي. والأسوأ من ذلك أنّ المال السهل يضلّل روّاد الأعمال. فعندما تُخفَّض أسعار الفائدة بشكل مصطنع، فذلك يرسل إشارة خاطئة مفادها أن هناك مدخرات متوفرة وجاهزة للاستثمار، تعالوا واستثمروا! ابنوا!”، فيندفع الناس لبناء مشاريع لا سند لها!” لكن في الحقيقة، لا توجد مدخرات؛ إنها كذبة. وهذا ما يسميه النمساويون ” سوء الاستثمار” أو “سوء تخصيص الموارد”. تماماً كما لو شيّد كروزو مصنعاً للأسماك بلا عمّال ولا موارد، ثم انهار الوهم لاحقاً ويضيع معه رأس المال.
لا يقتصر أثر التضخم على سوء تخصيص الموارد فحسب، بل يتسبب أيضًا في تآكل قيمة رأس المال. فعندما ترتفع الأسعار، تصبح صيانة الآلات أكثر صعوبة. فذلك الجهاز الذي كنت تخطط لاستبداله من مدخراتك أصبح الآن أغلى بنسبة 40%. فتؤجل ذلك. وتنخفض الإنتاجية. وإذا تكرر ذلك على مستوى الاقتصاد بأكمله، ينتشر التدهور. وغالباً ما ننسى أن رأس المال يَبلى ويحتاج إلى تعويض وإصلاح، وذلك يتطلب عملاً حقيقياً وادّخاراً حقيقياً، لا أوراقاً ولا وعوداً. لقد أصاب جان باتيست ساي حين قال إن “الإنتاج هو ما يخلق الطلب”. الثروة تنبع من السلع الحقيقية، لا من الديون الفارغة. النقود مجرد وسيط. فإذا توهّمنا أنه الجوهر، فسدَت العملية برمتها.
الحقيقة إذن واضحة جليّة: لا يمكنك أن تطبع طريقك إلى الازدهار. لا يمكنك أن تستهلك ما لم يُنتَج. لا يمكنك أن تنفخ في فراغٍ لم يُكتسب. رأس المال الحقيقي، والثروة الحقيقية، تنشأ من العمل والصبر والتضحية. إنها تُبنى بشباكٍ صُنعت في لحظة جوع، واستُعملت في لحظة أمل.
بقلم دانيال أغباكي – اقتصادي نيجيري من المدرسة النمساوية الليبرالية، متدرّب في معهد ميزس.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.