تتطوَّر المدن عندما يجتمع الناس ويتبادلون السلع والخدمات، فتتحول إلى محركات للنمو وسبل للخروج من الفقر نحو الازدهار. من دون أن ندرك، توفر المدن احتياجاتنا الأساسية من غذاءٍ وماءٍ وصرف صحي وكهرباء وطرقٍ وسكنٍ وملابس ومدارسٍ وأطباءٍ، وكل ذلك عبر منظومة تلقائية من التفاعل الحر بين الأفراد.
كيف تُطعم باريس؟
لنأخذ مثالًا على ذلك: الطعام. في مدينةٍ يقطنها ملايين البشر، تتنوع أذواقهم وتفضيلاتهم الغذائية بين الطازج والمعلّب، وبين ما يُشترى من المتاجر أو المطاعم أو الأسواق الشعبية وحتى خدمات توصيل الطعام إلى المنازل المتزايدة.
لكن من الذي يحدد كمية الطعام وأنواعه التي يجب إنتاجها؟ نتساءل كما سأل الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا: ما هي “القوة البديعة والخفية” التي تضع الطعام على موائدنا؟ وجوابه كان واضحًا: “مبدأ التبادل الحر.
التبادل الحر أساس الازدهار
التبادل الحر يعني أن الأفراد والشركات يتبادلون السلع والخدمات عن طريق اتفاق طوعي. وهو يقوم على حق المنافسة من خلال تقديم سلع وخدمات أفضل وأرخص للمستهلكين. ولا يمكن أن يوجد تبادل حر دون ملكية، إذ لا يمكن لأحد أن يبادل ما لا يملكه. ودور الحكومة يجب أن يقتصر على حماية الملكية، ومنع الغش والعنف، والدفاع عن المواطنين من العدوان الداخلي والخارجي. حينها فقط، تتحقق الحرية الاقتصادية.
يشكل التبادل الحر أساس الحسابات الاقتصادية، فهو يُقسِّم التبادل الحر المشكلات الكبرى – مثل إطعام مدينةٍ أو دولةٍ – إلى آلاف المسائل الصغيرة. فالمزارع لا يزرع لإطعام الجميع، بل ليبيع إنتاجه لمن يرغب في شرائه. ويقوم تجار الخضار وبائعو المواد الغذائية بشراء المنتجات من المزارعين ثم يبيعونها لعملائهم. ويختار بائعو الأغذية إقامة محلاتهم في المناطق التي يجدون فيها سوقاً لمنتجاتهم. ومن خلال هذه الشبكة المتكاملة ومن دون قصد مباشر منهم، يساهم هؤلاء الباعة جميعاً في توفير الغذاء للمدينة بأكملها من دون تخطيطٍ مركزي.
تنتج هذه التبادلات معلوماتٍ حول الأسعار والعرض والطلب، يستخدمها المنتجون لتقدير أنواع وكميات الغذاء التي قد يحتاجها الزبائن. كما تمكّنهم من تقدير الدخل والنفقات والمخاطر المرتبطة بعملية تبادل محتملة. وتتم عملية التبادل فقط إذا اتفقت الأطراف على شروطها. السوق، بهذا المعنى، يعمل كآلة حاسبة عملاقة تجمع ملايين العمليات الحسابية والقرارات والتبادلات التي تحدث في كل لحظة. وهو المصدر الذي يوفر المعلومات اللازمة لتحديد ماذا يُنتج، وأين، وبأي كمية، ولمن، ومتى. غير أن السوق نفسه لا يتخذ القرارات، بل الأفراد والشركات هم من يفعلون ذلك، لتوجّه الموارد إلى حيث الحاجة الحقيقية.
عندما يُمنع التبادل الحر
لكن عندما تتدخل الحكومة لتمنع التبادل الحر وتحتكر الإنتاج والتوزيع، ينهار هذا النظام الذاتي. بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ألغت الدولة التبادل الحر وطبقت “القفزة الكبرى إلى الأمام”، فحوّلت المزارعين إلى موظفين في مزارع جماعية تديرها الدولة. وكان مخططو الغذاء يحسبون احتياجات البلاد من الحبوب واللحوم ومنتجات الألبان، ويحوّلون هذه الحسابات إلى أوامر إنتاج للمزارع الحكومية. فرض المخططون الزراعيون تقنياتٍ غير واقعية، كإبادة العصافير التي كانت تأكل الحشرات، فانفجرت أعداد الجراد، وتلفت المحاصيل، وحدثت المجاعة الكبرى بين عامي 1958 و1961، فمات أكثر من ثلاثين مليون شخص جوعاً.
النتيجة كانت مشابهة في الاتحاد السوفييتي خلال سياسة “التجميع القسري” لتحسين الإنتاجية والكفاءة الزراعية، التي أودت بحياة خمسة ملايين شخص بين 1931 و1933. فكيف يمكن لبيروقراطي في مكتب أن يعرف أكثر من الفلاح عن المناخ والتربة والري وتفضيلات المستهلكين والتوزيع والأسعار؟ إن مركزية القرار الاقتصادي محكوم عليها بالفشل، وتجميع هذه المعلومات في دائرة حكومية مهمة مستحيلة، لأن المعرفة موزعة في أذهان آلاف المزارعين والشركات الزراعية لا في أوراق الإدارات.
التدخل المقيّد
حتى اليوم، تُعيق الحكومات التبادل الحر عبر الضرائب والرسوم وضوابط الأسعار وقيود الاستيراد والتصدير والتراخيص والدعم الانتقائي، وغيرها. ولجذب الاستثمارات، تقدم الحكومات الدعم المالي والحوافز الضريبية. جميع الدول تفعل ذلك، ويدفع دافعو الضرائب ثمنه. وغالبًا ما تُنفق أموال الضرائب على دعم مشاريع لا يعلم أحد إن كانت مجدية أم لا.
ولا عجب أن أغلب الأزمات الاقتصادية تقع في القطاعات التي تتدخل فيها الدولة أكثر: الصحة، التعليم، والإسكان. بينما القطاعات التي تترك فيها الأسواق تعمل بحرية نادرًا ما تشهد نقصًا في السلع. فعندما يكون التبادل الحر هو القاعدة، تكون الأغذية متوفرة على الأرفف. ونعتبر توفر الأحذية والملابس والسيارات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة وأجهزة التلفاز والثلاجات أمراً مفروغاً منه.
الحرية تُطعم وتبني
استلهم باستيا رؤيته من الملاحظة الشخصية. واليوم، تؤكد الدراسات المستقلة صحة هذه الرؤية. وبالفعل أثبتت دراسات عديدة أن البلدان التي تتمتع بمستوياتٍ عالية من الحرية الاقتصادية هي الأكثر ازدهارًا، وأن الفقراء فيها يعيشون أفضل من الفقراء في الدول المقيدة.
فالحرية في التبادل، وحرية الاختيار، وضمان حقوق الملكية، ليست شعاراتٍ نظرية، بل هي الركائز الحقيقية للرخاء الإنساني.
حين يفشل التخطيط، تنجح الحرية. وحين تُترك الأسواق تعمل وفق قانون العرض والطلب، تُطعم المدن نفسها وتزدهر الأمم بلا أوامر ولا مخططات.
بقلم يوهان بيرمان – مخطط حضري وباحث في السياسات العامة
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://freemarketfoundation.com/planning-fails-freedom-feeds/