• أكتوبر 18, 2025

لماذا أصبح كل شيء أكثر غلاءً؟

يجد الناس في شتى أنحاء العالم أنهم يشترون بأموالهم أقل فأقل كل شهر. أسعار الغذاء والنقل والكهرباء تتصاعد، بينما تبقى الأجور راكدة. المسؤولون الحكوميون يسوقون تبريرات شتى: أسعار الصرف، أسعار النفط، هوامش أرباح التجار، أو حتى النزاعات الدولية. لكن كل هذه التفسيرات تحجب السبب الجوهري: التضخم لا يحدث لأن الأسعار ترتفع، بل لأن الحكومات تطبع أموالًا أكثر مما ينبغي.

قيمة النقود تتآكل

المقياس الأكثر دقة ووضوحًا لخلق النقود هو ما يُعرف بـ”القاعدة النقدية” — أي مجموع الأوراق النقدية والعملات المتداولة، وكذلك أرصدة الاحتياطي التي تحتفظ بها البنوك التجارية لدى البنك المركزي في كلّ دولة.. فعندما تُنشأ أموال جديدة، لا تنشأ من ادخار أو إنتاج أو تجارة، بل تُخلق من العدم. لكنها يُضَخّ إلى اقتصاد حيث الناس كسبوا أموالهم بجهدهم. ومع انتشار هذه النقود المصطنعة، يزداد المعروض النقدي بينما تبقى كمية السلع والخدمات ثابتة. فينخفض بالتالي قيمة كل وحدة نقدية موجودة. ترتفع الأسعار لا لأن السلع أصبحت نادرة، بل لأن النقود نفسها فقدت قيمتها. وهكذا يُنتقص من قيمة جهد المدخرين والعاملين دون أن يشعروا، وكأن ثمار عملهم تُصادر في صمت تدريجيًا.

هذه ليست ظاهرة جديدة. ففي القرون السابقة، كان الملوك يجزّون أجزاء صغيرة من العملات الذهبية والفضية قبل إعادة طرحها في التداول. كانت العملات تبدو كما هي، لكنها تحتوي على معدن أقل، فاكتشف الناس لاحقًا أن أموالهم فقدت قيمتها ليس بسبب السرقة في الطرقات، بل بسبب العبث الرسمي في دار السكة اليوم، يعدّل البنك المركزي الأرصدة الرقمية بدل اقتطاع القطع المعدنية، لكن النتيجة نفسها: تتدهور قيمة النقود لأن المعروض منها يزداد.

أثر كانتيلون: الضريبة الخفية

هذه السرقة الهادئة للقوة الشرائية تُعرف في علم الاقتصاد بـ”أثر كانتيلون” — وهي بمثابة ضريبة خفية تُفرض دون قانون ودون شفافية. فالزيادة المصطنعة والمفرطة في القاعدة النقدية هي ما يدفع الأسعار إلى الارتفاع في كل أنحاء الاقتصاد. من يتقاضون أجورًا ثابتة أو معاشات أو منحًا اجتماعية يعجزون عن تعديل دخولهم بسرعة تواكب ارتفاع الأسعار، فيفقدون قوتهم الشرائية بشكل دائم. الجميع يشعر بذلك اليوم، لكن الفقراء هم الأكثر تضررًا. فقيمتهم الشرائية تُحوّل تدريجيًا بهدوء إلى أولئك الذين يتلقون المال الجديد أولًا: الحكومات، المتعاقدون الكبار، والشركات ذات النفوذ السياسي.

الكلفة المؤجلة للتضخم

غالبًا ما يكون أثر التوسع في القاعدة النقدية مؤجلًا زمنيًا، فتُخفيه فترات زمنية بين ضخ الأموال الجديدة وارتفاع الأسعار. فالتوسع الائتماني المصطنع وتغيرات أسعار الفائدة وسعر الصرف كلها ناتجة عن زيادات سابقة في القاعدة النقدية. وبحلول الوقت الذي يشعر فيه المواطن العادي بالتضخم في الأسعار، يكون المستفيدون من الأموال الجديدة قد أنفقوها بالفعل. وهكذا يخطئ الاقتصاديون الذين يركّزون فقط على “مؤشر الأسعار” أو على “الكتلة النقدية الواسعة” دون النظر إلى الجذر الحقيقي: القاعدة النقدية هي السبب، وارتفاع الأسعار هو النتيجة.

يُكافئ التضخم ذوي النفوذ السياسي على حساب الناس الصادقين. فهو يعاقب الادخار، ويشوّه الاستثمار، ويقوّض الثقة في العملة ذاتها. ومع تدهور قيمتها، يلجأ الناس — بحق — إلى العملات الأجنبية أو الأصول الصلبة أو العملات الرقمية، فيفقدون الثقة بالعملة الوطنية ويُسرّعون سقوطها أكثر.

استعادة قوة النقود

لحماية قيمة العمل الشريف وإعادة الثقة إلى النقود، ينبغي:

  • تقييد سلطة البنك المركزي قانونيًا في توسيع القاعدة النقدية، بحيث لا يُسمح له إلا ضمن حدود صارمة تستند إلى احتياطات حقيقية.
  • إزالة جميع القيود على استخدام بدائل العملة المحلية، بما في ذلك العملات الأجنبية أو النقود المدعومة بالسلع أو الأدوات الرقمية.
  • إعادة الربط بالذهب، وإنهاء احتكار الدولة لإصدار النقود، ليُعاد الاعتبار لقيمة الجهد الإنساني.

لن ينتهي التضخم إلا عندما يتوقف التوسع في القاعدة النقدية. لا توجد طرق مختصرة، ولا أكباش فداء، ولا بدائل عن العملة السليمة.

بقلم يوستاس ديفي، مدير مؤسسة السوق الحر

 

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

Read Previous

ف. أ. هاربر: الديمقراطية لا تضمن دائما الحرية!

Read Next

كيف أصبحت بوتسوانا واحدة من أغنى دول إفريقيا