تعج النقاشات حول البراءات بالكثير من المغالطات الواقعية والتاريخية، ولذلك يجدر بنا أولًا أن نصحح المفاهيم. فبعض الليبرتاريين يزعمون أن البراءات كانت تاريخيًا مجرد امتيازات قانونية (احتكارية) سنّها المشرّع، وتميّزت عن قرارات المحاكم التي تحمي حقوق الملكية في الأراضي ضمن القانون العرفي. لكن هذا الادعاء ليس سوى خرافة تتخفى في زيّ التاريخ، ويجب علينا أن نرفضها تمامًا كما نرفض خرافات أخرى مثل “أمراء السلب”، لأنها تسوق لرؤى معيارية على أساس روايات زائفة. الواقع أن المحاكم في بدايات الجمهورية الأمريكية تؤكد على أن براءات الاختراع تُعتبر حقوق ملكية أساسية.
جذور البراءة
لا يمكنني في هذا المقال القصير أن أقدّم دفاعًا شاملاً عن البراءات كحقوق ملكية، لكن بإمكاني تلخيص الموقف بإيجاز. في جوهرها، فإن تبرير حقوق الملكية هو تبرير لجميع أنواع حقوق الملكية، مثل المزارع والمباني والمصانع والغاز والنفط والطيف الإذاعي والشركات والاختراعات، وغيرها. فجميع أشكال “الملكية” تنبع من ضرورة إنتاج القيم اللازمة لحياة إنسانية مزدهرة. (والمقصود بـ”القيمة” هنا ليس معناها الاقتصادي فحسب، بل معناها الأخلاقي: أي الأشياء التي يُنتجها الإنسان ليحيا حياةً مزدهرة). ومن هنا، فإن “حق الملكية” يُحدد مجال الحرية الضروري لخلق هذه القيم واستخدامها والتصرف فيها.
فكل إنتاج، سواء كان لمصانع أو سيارات أو حواسيب أو أدوية حيوية جديدة، يبدأ بالضرورة بعملية عقلية لتحديد القيم المراد إنتاجها والوسائل الكفيلة بإنتاجها. وهنا تتجلّى عبقرية جون لوك الذي كان أول من أدرك (ولو بصورة غير مكتملة) أن الملكية تنبع من الفعل الأخلاقي للعمل المنتج. أما عبقرية آين راند فكانت في إدراكها أن عقل الإنسان هو وسيلته الأساسية للبقاء، وأن الإنتاج ما هو إلا تطبيق العقل لحل مشكلة البقاء، ومن ثم فإن جميع الملكيات تعود في جذورها إلى “الملكية الفكرية”.
وتُظهر نظرية راند الأخلاقية لماذا لم تُحصر حقوق الملكية في الأشياء المادية فقط: لقد أدرك القانون الأنجلو-أمريكي أن حقوق الملكية تحمي “القيم”، لا الأشياء المادية بحد ذاتها. وقد قضت المحاكم الأمريكية منذ زمن بعيد بأن “الملكية … قد تُنتهك دون الاستيلاء المادي عليها “، وذلك عند ارتكاب أي فعل “يُدمرها أو يدمر قيمتها”. وهذا هو المقصود باستعارة “الحقوق الطبيعية” التي تقول إن حقوق الملكية تحمي ثمار عمل الفرد – أي استخدامه لمجهوده والأرباح الناتجة عنها. وكما عبّرت إحدى المحاكم: “قد يُحرم الإنسان من ملكيته… دون أن تُصادَر أو تُدمَّر فعليًا، أو تُنتزع من حيازته”.
وبناءً على ذلك، يضمن القانون الأمريكي حقوق الملكية في الاختراعات الجديدة والمفيدة – من خلال حماية حق المخترع في صناعة واستخدام وجني الأرباح من القيمة التي أوجدها بجهوده الإنتاجية. فالقانون البرائي يضمن نفس الحقوق التي تضمنها حقوق الملكية الأخرى الناتجة عن مختلف أشكال العمل الإنتاجي. فجميع الملكيات، في أصلها، ملكيات فكرية، لأن العقل البشري هو الجذر الأساسي للقيم التي نُنتجها من أجل حياة مزدهرة — وهذه القيم تُحمى جميعًا بحقوق ملكية تُمنح لمن أبدعها.
ما الذي يمكن استخلاصه من هذه الرؤية المعيارية؟
أولًا، هذا يعني أن حقوق الملكية لا تُبرّر أساسًا على أنها حلّ لمشكلة النزاع حول الموارد “النادرة”. فبدء التبرير الأخلاقي لحقوق الملكية من مفهوم “الندرة” الاقتصادي لا يجيب عن السؤالين: “لماذا يُعتبر إنتاج القيم فعلًا أخلاقيًا؟” و”من أين تنبع هذه القيم أصلاً؟” نعم، تُستخدم الملكية كمعيار لحل النزاعات، لكن هذا مجرد نتيجة منطقية للتبرير الأخلاقي الأوسع لحقوق الملكية: يجب تأمين ثمار العمل المنتج لأصحابها.
ثانيًا، تُحدَّد حقوق الملكية موضوعيًا وفق طبيعة “القيمة” التي تُحمى لصاحبها. لذا، فإن أنواع الملكية المختلفة تُحمى بطرق مختلفة قانونيًا.. فحدود المدة الزمنية وغيرها من الحمايات أو القيود القانونية الخاصة بالبراءات ليست ذات أهمية مبدئية أكبر من الاختلافات العقائدية الأخرى في كيفية حماية القانون لحقوق الملكية في المياه، والمنقولات، والأراضي، والترددات، والشركات، والائتمان، وغيرها. بعبارة أخرى: لا الندرة ولا القيود الزمنية تنقض السبب الأخلاقي الجوهري لكون البراءات حقوق ملكية. فجميع حقوق الملكية تحمي، كما قالت راند، “حق الإنسان في ثمرة عقله”.
بقلم آدم موسوف أستاذ القانون ومدير مشارك للبرامج الأكاديمية في مركز حماية الملكية الفكرية بكلية الحقوق – جامعة جورج ميسون.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.