تخيّل مشهدًا بسيطًا في أحد أحياء المدينة: متجر لبيع الأدوات يقابله مقهى صغير على الطرف الآخر من الشارع. مرة واحدة في السنة، يشتري المقهى مجموعة من الأواني من المتجر لتسيير عمل مطبخه. في المقابل، يزور موظفو المتجر ومديروه المقهى يوميًا لتناول الغداء—شطائر، قهوة، وربما شريحة من الفطيرة. وعند نهاية العام يقوم مدير المتجر بمراجعة الحسابات ويقول متجهّمًا: “أنظروا إلى هذا! لقد أنفقنا على الغداء أكثر بكثير مما أنفقه المقهى على شراء الأواني منا. لدينا عجز تجاري معهم! لا بد أن نضع حدًا لهذا“.
“المشكلة” التجارية التي لا وجود لها
للوهلة الأولى يبدو اعتراض مدير المتجر منطقيًا. إنه يشعر وكأن متجره “يخسر” أمام المقهى. لكن لنتوقف وننظر إلى الأمر من زاوية أوسع.. لماذا يذهب الموظفون إلى المقهى أصلًا؟ ببساطة: لأنهم يحبونه. أسعار المقهى مناسبة، موقعه قريب، والطعام يلبي رغباتهم. لم يُجبرهم أحد على ذلك—لقد اختاروا إنفاق أموالهم التي كسبوها بجهد لأن ذلك يحسّن يومهم.
والآن لننظر إلى الطرف الآخر. يشتري المقهى الأواني مرة في السنة فقط لأنه لا يحتاج لأكثر من ذلك، فهي لا تستهلك يوميًا كما المأكولات والمشروبات. فهل يجب أن يُجبر المقهى على شراء المزيد من الأدوات لمجرد تحقيق “توازن محاسباتي “؟ بالتأكيد لا—هذا سخيف. الناس يتبادلون السلع والخدمات بناءً على ما يريدونه ومتى يريدونه. التركيز على “العجز” بين هذين النشاطين التجاريين يُخطئ الجوهر: كلا الطرفين يحصل على شيء ذي قيمة من هذا التبادل. وهنا يُخطئ أنصار الرسوم الجمركية: التجارة ليست مسابقة رياضية. ليست مسألة تساوٍ حسابي مالي بين ما يُباع ويُشترى أو ما بين طرفي التبادل. إنها تتعلق بخيارات الأفراد لما يناسبهم ويخدم مصالحهم وينال رضاهم.
الصورة الأكبر هي الأهم
خطأ آخر يرتكبه المدير: يتعامل مع الوضع وكأن متجره والمقهى هما الوحيدان في المدينة. بينما المتجر يبيع أيضًا لمطاعم أخرى، ولمقاولين، ولسكان الحي. والمقهى لا يعتمد فقط على موظفي متجر الأدوات، بل لديه زبائنه الدائمون، والسياح، وربما توصيلات خارجية. العجز بين هذين الاثنين ليس سوى مجرد جزء صغير من صورة أكبر بكثير.
الأمر ذاته ينطبق على الدول. كم مرة نسمع سياسيين يقولون: “نحن نستورد من الدولة الفلانية أكثر مما نصدر إليها!” لكن إذا استوردت الولايات المتحدة أكثر مما تصدر إلى الصين، فهذا لا يعني أنها “تخسر”. بل يعني أنها تحصل على سلع يحتاجها الناس—هواتف، ملابس، وغيرها—بينما يواصل اقتصادها العمل والتوسع من خلال علاقاته التجارية مع باقي دول العالم. التركيز على عجز واحد يشبه الحكم على رواية من خلال صفحة واحدة فقط.
الرسوم الجمركية: علاجٌ يضر أكثر مما ينفع
الآن، تخيّل أن مدير المتجر ضاق ذرعًا وقرر فرض “ضريبة على الغداء” لحماية نشاطه التجاري. ماذا سيحدث؟ سترتفع أسعار الغداء بشكل كبير. سيغضب الموظفون لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمّل كلفة شطيرتهم المعتادة، فيتوقفون عن زيارة المقهى، أو يحضرون طعامهم من المنزل، أو يذهبون إلى مكان أبعد. عندئذ يخسر المقهى زبائنه ويضطر لتقليص ساعات العمل. وفي النهاية، لا يزال المدير جالسًا على رفوف مليئة بالمقالي غير المباعة—لأن المقهى ببساطة لا يحتاجها، سواء كانت هناك رسوم أم لا.
من الرابح هنا؟ لا أحد. الموظفون مستاؤون، المقهى يتكبد خسائر، والمتجر لم يحقق أي ربح إضافي. الرسوم الجمركية لم تُصلح “العجز”، بل جعلت الجميع أسوأ حالًا. وهذا تمامًا ما يحدث على مستوى الدول. عندما تُفرض ضرائب على الواردات، ترتفع أسعار السلع اليومية—المواد الغذائية، الأجهزة الإلكترونية، قطع غيار السيارات، وتتأذى الشركات التي تعتمد على تلك السلع وتُفقد الوظائف. أما الدولة الأخرى؟ لن تبدأ فجأة بشراء المزيد منا—بل قد ترد برسومها الخاصة، وندخل في حرب تجارية خاسرة للجميع.
الثروة ليست مالًا فقط
الحقيقة الكبرى هنا: المتجر ليس “فقيرًا” بسبب المقهى. موظفوه ينفقون على الغداء، نعم، لكنهم يكسبون أجورهم من عملهم في متجر لا يزال نشطًا. ونجاح المقهى لا يُضعف المتجر، بل هو جزء من منظومة حيّة يتبادل فيها الجميع السلع والخدمات ويستفيدون. الثروة لا تعني تكديسًا للنقود، بل امتلاك أشياء نُقدّرها— كالأدوات، طعام والطعام، وراتب نستخدمه كما نشاء.
وهكذا تعمل الأمم أيضًا. أن تستورد أكثر مما تُصدّر لا يعني أنك مفلس. بل أنك تحصل على ما تحتاج إليه، وتُموّل ذلك من وظائفك، واستثماراتك، وابتكاراتك. الولايات المتحدة تُسجّل عجزًا تجاريًا منذ عقود، ومع ذلك تبقى قوة اقتصادية عظمى. لماذا؟ لأن التجارة ليست لعبةً صفرية.
يريد أنصار الرسوم الجمركية إقناعك بأن العجز التجاري “كارثة” وبأننا نتعرض “للاستغلال” من قِبل أجانب ماكرين أو مقاهٍ جشعة. لكن تمعّن قليلًا. في المرة القادمة التي تسمع فيها أن “الرسوم ستنقذنا”، تذكّر قصة متجر الأدوات والمقهى. الرسوم لا تحمينا؛ بل تعبث بنظام يعمل في الأساس على نحو جيد. دعونا نترك الدعاية جانبًا ونثق في الواقع المعقّد والرائع للتجارة الحرة. فحقًا، من يريد منا أن يدفع أكثر ثمنًا لشطيرة لمجرد إغاظة المقهى؟
بقلم ألين جيندلر باحث مستقل متخصص في مدرسة الاقتصاد النمساوية والاقتصاد السياسي.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://fee.org/articles/why-tariffs-dont-fix-trade-deficits/