• يوليو 1, 2025

هل تزايد التفاوت يُعيق النمو الاقتصادي؟

من بين أكثر الأساطير رواجًا فيما يُعرف بـ”اقتصاد التنمية”، الاعتقاد بأن النمو الاقتصادي المصحوب بارتفاع عدم المساواة لن “يتسرب” إلى الفقراء بمعنى أنه لا يؤدي إلى تحسّن أوضاعهم. غير أن دراستي المقارنة متعددة الدول، بالتعاون مع هلا ماينت، والمنشورة تحت عنوان “الاقتصاد السياسي للفقر والمساواة والنمو”، قدّمت أدلة وحججًا تفنّد هذا الزعم. شملت الدراسة المسارات الاقتصادية لـ21 دولة نامية من عام 1950 وحتى حوالي عام 1990. كما أن التجربتين الحديثتين في كل من الهند والصين أثبتتا أنه، على الرغم من تزايد التفاوتات، فإن النمو السريع لم يقتصر على “التسرب” للفقراء، بل أسهم في أكبر عملية تخفيف للفقر في المستويات الدنيا في التاريخ الحديث. ومع ذلك، لا تزال هذا الاسطورة المغلوطة يُعاد تدويرها من جديد.

عند مناقشة قضايا المساواة والفقر والنمو، من الضروري التمييز بين نوعين من التفاوت: النوع الأول هو التفاوت الذي يُعد نتيجة طبيعية لعملية النمو—حيث ترتفع مداخيل رواد الأعمال نتيجة لقوى السوق الحرة غير المشوّهة—وهذا تفاوت مبرر. أما النوع الثاني فينشأ عن مختلف أشكال السعي للريع والمحاباة، وهو تفاوت غير مبرر.

في الولايات المتحدة، تتنامى سردية شائعة — يروّج لها العديد من الكتّاب الأكاديميين والشعبيين من اليسار — مفادها أن تزايد عدم المساواة سيُعيق النمو ويُفقر الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. لكن فحصًا دقيقًا لهذا الخطاب “التشاؤمي” لما يُعرف بأدبيات “الانحدار الاقتصادي، قام به سكوت وينشيب من مؤسسة بروكينغز (في مقاله المبالغة في تكاليف التفاوت”، مجلة National Affairs، ربيع 2013(، عبر رسوم بيانية نمو مداخيل الخُمس الأدنى، والخُمس الأوسط، وأعلى 5% من التوزيع الدخلي الأمريكي، وذلك في فترات متعددة بين 1948 و2007. وخلص إلى أن الفجوة بين الفقراء والطبقة المتوسطة لم تزد كثيرًا، بل تراجعت في معظم الفترات باستثناء الثمانينيات. بل إن العقود الثلاثة التي سبقتها شهدت نموًا أكبر في دخول الطبقتين الدنيا والمتوسطة مقارنة بالأثرياء. والأهم، كما يشير وينشيب، أن “الأسرة الأمريكية المتوسطة اليوم تتمتع بقوة شرائية توازي ضعف نظيرتها في عام 1960

ويُروَّج كذلك لفكرة أن الوضع الحالي “غير عادل” لأن أجور العمال لم تواكب الزيادات في إنتاجيتهم، مما يعني أن مكاسب الدخل التي حققها أعلى 5٪ من السكان قد سُرقت من الطبقة الوسطى، على عكس “العصر الذهبي” حين كانت أجور العمال ترتفع بوتيرة أسرع. لكن وينشيب يرد بأن الفترة الذهبية شهدت ارتفاع الأجور بوتيرة أسرع من الإنتاجية، وبالتالي فإن ما حدث مؤخرًا ما هو إلا تصحيح—حيث لحقت الإنتاجية بالأجور. ولا يوجد مبرر للبكاء على انتهاء الريوع الاحتكارية التي استفاد منها العمال المنتمون إلى النقابات، تمامًا كما لا يوجد مبرر للدفاع عن ريوع المصرفيين الذين استغلوا “الخطر المعنوي” الناتج عن تأمين الودائع لخدمة مصالحهم الخاصة.

لكن، هل التفاوت المتزايد يُعيق النمو الاقتصادي؟ كثير من الأدلة المطروحة تعتمد على دراسات انحدار اقتصادي مقارنة بين الدول النامية، وهي تعاني من مشكلة منهجية معروفة تُدعى “مشكلة التحديد” أو identification، وهي ضرورية لتحديد العلاقة السببية. بمعنى: هل التفاوت سبب في ضعف النمو؟ لا يمكن للدراسات الاقتصادية العابرة للبلدان أن تقدم إجابات قوية أو موثوقة على هذا السؤال (انظر كتابي الفقر والتقدم). في الواقع، تُظهردراسة حديثة (سي. جينكس وآخرون: “هل تؤدي زيادة دخول الأغنياء إلى رفع مستوى الجميع؟(، أنه خلال القرن العشرين، لم يكن هناك ارتباط واضح بين تغير مستويات التفاوت والنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة و12 دولة متقدمة. بل إن الفترة بين 1960 و2000 شهدت ارتباطًا إيجابيا بين ارتفاع التفاوت وارتفاع النمو الاقتصادي.

وماذا عن الزعم بأن ارتفاع التفاوت يعيق الحراك الاجتماعي؟ آلان كروغر، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد أوباما، عرض ما سمّاه “منحنى غاتسبي العظيم”، الذي ربط بين مستويات التفاوت ومؤشر للحراك الاجتماعي بين الأجيال (يقيس العلاقة بين دخل الأب والابن) في عدد من الدول المتقدمة، ووجد أن ارتفاع التفاوت يرتبط بانخفاض الحراك الاجتماعي. ولكن، تمامًا كالدراسات السابقة للانحدار الاقتصادي العابرة للدول حول العلاقة بين عدم المساواة والنمو، تعاني هذه الاستنتاجات من مشكلة التحديد أيضًا. وقد فندها جيمس مانزي من معهد مانهاتن، إذ أجرى تجربة إحصائية استبدل في في معادلة كروغر متغير التفاوت بمتغيرات أخرى كعدد السكان، نسبة الصادرات من الناتج المحلي، والتعددية الدينية، فكانت العلاقة “الاحصائية” أقوى (انظر: James Manzi, “The Great Gatsby, Moby Dick and omitted variable bias”، 7 فبراير 2012، www.nationalreview.com).

وبينما تظل الادعاءات حول الآثار الاقتصادية السلبية للتفاوت محل شك، فإن بروز ما يشبه “مجتمع الطبقات” في الولايات المتحدة من شأنه أن يقوض أحد الملامح الأساسية للثقافة الأمريكية المشتركة التي لطالما مجّدت على مدار السنوات الانتماء إلى مجتمع لا طبقي حر ومفتوح. وقد ناقش تشارلز موراي هذه الظاهرة في كتابه الهام الانقسام: حالة أمريكا البيضاء، 1960–2010، موضحًا الأسباب الكامنة وراء التغييرات الثقافية التي أدت إلى هذا التمايز الطبقي المتنامي.

 

بقلم ديباك لال، زميل باحث سابق بمعهد كاتو، مؤلف كتاب “الفقر والتقدم”، ومختص في الاقتصاد السياسي والتنمية.

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.

https://www.cato.org/commentary/case-trickle-down

Read Previous

لماذا لا تقوم الرسوم الجمركية عجز الميزان التجاري؟

Read Next

وقف الاتكال على الدولة: لنتعلم من شعوب جنوب القوقاز