لمساعدة أي اقتصاد على الاستمرار في النمو، يجب السماح للناس بالابتكار والتبادل. ولتحقيق ذلك، ينبغي إزالة وتقليص القوانين والضرائب المُرهِقة، وإنهاء الحروب التجارية.
في ظل الأزمات والصراعات والحروب التي تعصف بالعالم اليوم، يتزايد القلق بشأن التوجهات المستقبلية لنمو الاقتصاد. هذه الشكوك المتصاعدة تعيد إلى الواجهة السؤال الجوهري القديم في علم الاقتصاد: ما الذي يخلق الثروة؟
على مدى معظم فترات التاريخ البشري، لم يكن هناك تقريبًا أي ثروة تُذكر. عاشت البشرية في فقر مدقع، وكان عدد سكان العالم ضئيلاً نسبيًا. فعلى الرغم من أن عمر الإنسان العاقل (Homo sapiens) يُقدّر بنحو 300,000 سنة، إلا إن 290,000 سنة منها تقريبًا قضاها الإنسان في جمع الثمار والصيد بصعوبة بالغة. وحتى بعد أن تبنّى الإنسان الزراعة، ظل التقدم بطيئًا ومتعبا للغاية. ولكن فجأة، ارتفع عدد السكان بشكل هائل، وتبعه انفجار في الدخل ومستويات المعيشة.
بين عامي 1700 و1900، ارتفع عدد سكان العالم من نحو 600 مليون إلى 1.5 مليار نسمة. وبين عامي 1800 و1900، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للفرد في اليوم. لقد نما الدخل في ذلك القرن أكثر من ضعفي ما نماه في
الثمانية عشر قرنًا السابقة مجتمعة. وبالتالي هناك علاقة وثيقة بين زيادة عدد السكان وارتفاع الدخل.
من الواضح كيف أن الثروة تتيح استيعاب عدد أكبر من السكان، ولكن هل يمكن أن يؤدي ازدياد عدد السكان بدوره إلى خلق مزيد من الثروة؟ الجواب هو: نعم — بشرط أن يُسمح للناس بالابتكار. فالهاتف الذكي أو الحاسوب الذي تقرأ منه هذا المقال هو نتاج شبكة معقدة من الابتكار البشري والتعاون التي تمتد عبر العالم.
لقد بدأ البشر في الابتكار منذ أن غادر أسلافنا الأوائل (الأوسترالوبيثيكوس) غابات أفريقيا حاملين أسلحة بدائية، قبل نحو سبعة ملايين سنة. كما أننا بدأنا في التخصص في المهام المختلفة، على الأقل منذ ظهور “الإنسان المنتصب” (Homo erectus) قبل حوالي مليوني سنة. ومع ذلك، ظل التقدم الاقتصادي بطيئًا للغاية. فما الذي فعله الإنسان بشكل مختلف خلال الـ250 سنة الماضية تقريبًا؟ ما الذي مكّن البشرية أخيرًا من تحقيق كامل إمكاناتها الابتكارية لخلق الثروة؟
لفهم ما الذي تسبب في انفجار الثروة، علينا أن ننظر إلى أين ومتى بدأ هذا التغيير. فقد بدأ النمو الاقتصادي بالتسارع قبل حوالي 250 سنة، أولاً في بريطانيا العظمى وهولندا، ثم في بقية أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وأخيرًا في باقي أنحاء العالم. فماذا حدث؟ هناك نظريات مختلفة، تُطرح عدة تفسيرات لهذا التحول التاريخي كثير منها يُكمل الآخر. حيث يرى الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل دوغلاس نورث أن تطور المؤسسات، بما في ذلك الدساتير والقوانين وحقوق الملكية، كان له دور حاسم في التنمية الاقتصادية. وتُرجع الاقتصادية ديردري مككلوسكي انفجار الثروة، أو ما تسميه “الاغتناء العظيم”، إلى تغير نظرة المجتمعات إلى الأسواق والمخترعين. فبعد أن كان يُنظر إلى التجار والمخترعين بازدراء واعتبارهم مبتذلين، بدأوا يحظون بالاحترام والحماية المؤسسية — وهو ما تسميه “كرامة البورجوازي”.
لكن التحول كان أعمق من ذلك. فقد حدثت نقلة نوعية في طريقة تفكير الناس. لم يقتصر الأمر على أن البريطانيين والهولنديين بدأوا ينظرون إلى أصحاب المتاجر والصنّاع بدون احتقار، بل أصبحوا يحترمونهم. يرى عالم النفس في جامعة هارفارد، ستيفن بينكر، أن التقدم في جوهره نابع من قيم عصر التنوير. ويؤكد أن العقلانية والعلم والنزعة الإنسانية كانت القيم وراء هذا التحول الذي غير مجرى التاريخ.
أما الباحث ستيفن ديفيز، فيشير إلى أن الابتكار ازدهر في أوروبا نتيجة المنافسة بين دولها. تاريخيًا، كانت الإمبراطوريات مثل الصين وروسيا والهند المغولية والإمبراطورية العثمانية وإيران الصفوية كبيرة جدًا لدرجة أن الصراعات بينها كانت تنتهي بحالة من الجمود. وكان الخطر الرئيسي على سيادتها يأتي من الاضطرابات الداخلية، ولذلك كانت تقمع الأفكار والابتكارات التي تهدد النظام التقليدي باسم الاستقرار.
أما في أوروبا، فكانت منقسمة إلى العديد من القوى المتحاربة باستمرار، لذا لم يكن بإمكان الطبقات الحاكمة قمع التقدم كليًا دون المخاطرة بفقدان السيادة. ولهذا، اعتمدت على الابتكار للبقاء في السلطة، فسمحت بحدوثه. ومع مرور الوقت، أدت هذه الأفكار الجديدة، شيئًا فشيئًا، إلى ظهور مؤسسات سياسية واقتصادية دامجة لتشمل شرائح أكبر من المجتمع، ما أتاح بيئة خصبة للابتكار وزيادة مستدامة في عدد السكان وازدهارهم.
لأول مرة في التاريخ، أصبح الفرد صاحب سيادة، وأصبح الابتكار محل تقدير، وأصبحت حقوق الإنسان تحظى باحترام متزايد. اليوم، يبلغ عدد سكان العالم أعلى مستوى له في التاريخ، في حين أن الجوع والأمية في أدنى مستوياتهما على الإطلاق. بعبارة أخرى، لقد غيّرت الثورة في الأفكار والمؤسسات مصير البشرية — نحو الأفضل.
ولا تزال الوصفة الأساسية للنمو الاقتصادي كما هي حتى اليوم. مثل وصفة طعام عائلية قديمة ومحبوبة، توارثتها الأجيال، لأنها أثبتت جدواها عبر الزمن. يمكن لصناع القرار تعزيز النمو الاقتصادي إذا سمحوا للناس بالابتكار والتبادل بحرية. ولتحقيق ذلك، يجب إزالة العقبات التنظيمية الثقيلة، وتخفيض الضرائب المرهقة، وإنهاء الحروب التجارية العقيمة.
بقلم:
تشيلسي فوليه، المحررة التنفيذية لموقع HumanProgress.org
ماريان ل. توبي، زميل أول في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://www.cato.org/commentary/old-fashioned-recipe-economic-growth