على غرار الديانات الأخرى، استُخدم الإسلام لتبرير مجموعة متنوعة من الأنظمة القانونية والسياسية، سواء لدعم الحرية أو تعزيز السلطوية. واليوم، نشهد صراعًا بين المسلمين التحرريين والديمقراطيين من جهة، وإخوانهم المتعصبين والمستبدين من جهة أخرى.
يستوحي بعض المسلمين التحرريين أفكارهم من التنوير العلماني الغربي، لكن التحرريين الإسلاميين يستمدون إلهامهم أيضًا من التأكيد القرآني على المسؤولية الفردية المباشرة أمام الخالق. فوفقًا للقرآن، الكتاب المقدس لدى المسلمين، حتى الأنبياء، بمن فيهم محمد، ليسوا سوى رسل أُرسلوا لتحذير الناس من يوم القيامة، وأي شخص يحاول التنصل من المسؤولية عن اختياراته من خلال إلقاء اللوم على قادته (سواء كانوا سياسيين أو دينيين) سوف يرى عقوبته مضاعفة.
مبدأ عدم الاعتداء، على الأقل فيما يتعلق بالعقيدة، هو حجر أساس في التصور الإسلامي لمسؤولية الإنسان الفردية في اختياراته العقائدية. يصرّح القرآن بذلك بوضوح في قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة 256)، بمعنى لا يُمكن أن يُفرض بالقوة، لأن القناعة الحقيقية لا تنبع إلا من الحرية الداخلية. وبما أن الإسلام يُفسَّر من قِبل أتباعه على أنه منهج حياة كامل، فإن نطاق هذه الوصية قد يمكن تفسيره بحيث يشمل العمل السياسي. ومع ذلك، فهذا المبدأ لا يُعد دعوة إلى السلمية المطلقة، لأن القرآن يجيز الحرب ردًا على العدوان، وينص على عقوبات محددة للسرقة، والاحتيال، وبعض أنواع الإخلال بالنظام العام.
يرى التحرريون الإسلاميون على أن الحكومات يجب أن تكون خاضعة لسيادة القانون الثابتة التي تُلزم الجميع، بما في ذلك الحاكم المدني، وهو موقف متجذر بقوة في الفقه الإسلامي. فقد أعلن أبو بكر، الخليفة الأول، عند انتخابه: “إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة… أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”. في التقليد الإسلامي، يُنظر إلى القانون على أنه قائم على الطبيعة البشرية، ومبني على مبادئ إلهية مُنزلة في القرآن، ومُطبقة من قبل النبي محمد، ثم تُفسَّر من خلال عملية استكشاف يقوم بها الفقهاء، بدلًا من أن تُسن عبر النصوص التشريعية. وتُقبل هذه التفسيرات أو تُرفض في “سوق الأفكار” على أساس احترام المجتمع لمكانة مؤلفيها.
أرسى الإسلام شكلًا من أشكال التعددية، ورغم أنه ليس علمانيًا، إلا أنه كان أكثر شمولًا مما سبقه في أي حضارة قبل العصر الأمريكي. فمقابل دفع ضريبة رمزية بدلاً من الخدمة العسكرية، سُمح لليهود والمسيحيين والصابئة – وفي الواقع، لأتباع ديانات أخرى – باتباع قوانينهم الدينية الخاصة في جميع الشؤون الداخلية لمجتمعاتهم وفي أفعالهم الخاصة. ورغم أن بعض الحكام المسلمين انتهكوا روح ونص هذا النظام، فإن الازدهار والحرية التي أتاحها هذا النموذج للأقليات الدينية حُظي باعتراف واسع، ليس فقط خلال 700 عام من تاريخ حكم المسلمين المور لإسبانيا (الأندلس)، بل أيضًا في معظم العصور والأماكن الأخرى التي خضعت للحكم الإسلامي.
يُؤكد القرآن والنبي بقوة على حقوق الملكية وحرية التجارة. فقد كان النبي محمد تاجرًا، لذا تُعد التجارة مهنة محترمة في الإسلام. والاستثناء الوحيد لأمر القرآن بحرية التجارة هو إدانته للربا، إذ عارض العلماء المسلمون عمومًا فرض معدلات فائدة ثابتة على القروض التجارية، وطالبوا بأن يتحمل المقرضون جزءًا من مخاطر أي مشروع باعتبارهم شركاء في رأس المال الاستثماري.
كان المعتزلة في العراق في القرن الثامن الميلادي أول من وُصفوا بالتحرريين من قِبل العلماء الغربيين. وقد أطلقوا على أنفسهم لقب “أهل العدل والتوحيد”، واعتقدوا أن البشر يجب أن يُتركوا أحرارًا لينجحوا أو يفشلوا في ممارسة إرادتهم الحرة الممنوحة من الله. إلا أن حركتهم انهارت كقوة سياسية متماسكة عندما حاولوا، بعد وصولهم إلى السلطة، أن يفرضوا رؤيتهم على الجميع، مطالبين بأن الأشخاص الذين يتبنون موقفهم العقائدي هم فقط من يجب أن يُسمح لهم بتولي المناصب الحكومية، مما أشعل شرارة التمرد، خصوصا بعد إصرارهم على أن يقوم جميع المشاركين في العملية السياسية بأداء “قسم الولاء”..
أبرز الاقتصاديين الأحرار في التاريخ الإسلامي هو ابن خلدون. ففي مقدّمته “المقدمة في علم التاريخ”، جادل بأن صعود وسقوط الحضارات يرتبطان بمدى التزامها بمبادئ العدل، بما في ذلك حرية التجارة وحماية الملكية. وقد استبق ابن خلدون ما يُعرف اليوم بـ “اقتصادات جانب العرض” بقوله إن الدول (السلالات الحاكمة) في بداياتها تجمع إيرادات كبيرة من خلال ضرائب منخفضة، لكنها في نهاياتها تجمع إيرادات ضئيلة من خلال ضرائب مرتفعة. وحذّر من أن تدخل الحكومة في التجارة سيؤدي إلى هلاك السلالة الحاكمة وانهيار الدولة.
بقلم عماد الدين أحمد، أستاذ جامعي فلسطيني-أمريكي ورئيس معهد مئذنة الحرية.
لمطالعة النسخة الأصلية من المقال انقر هنا.