• أبريل 29, 2025

التنوير والثورة .. الدفاع عن نظرية الانتقال الديمقراطي

يرى محمد الحداد أن الثورات لن تحقق مطالبها إلا بقيام دولة عادلة، وإن فشلت في ذلك ستفتح الباب لقيام ما أسماه الباحث بـ “البداوة السياسية”، القريبة من غرض أساسي للعولمة وهو إلغاء الدور السيادي للشعوب بتفكيك سيادات الدول. وإن كانت العولمة في المقابل أيضا تسعى إلى تقوية المجتمعات ضد الدولة…. .

يكمل الكاتب والباحث التونسي سلسلة إصداراته التي تعنى تحديدا بموضوعة الإصلاح “التنوير” داخل سياق الفكر الإسلامي، وعبر ما ارتبط بانعتاق مجتمعات العالم الثالثي الإسلامية من ربقة التخلف والارتهان للماضي. وقد ابتدأ هذه السلسلة بكتابه “مواقف من أجل التنوير” (بيروت 2005)، ثم كتابه “قواعد التنوير” (بيروت 2009)، ويمكننا ان نختزل مشروع الرجل وفكرته الأساس في تركيزه على قيمة التنوير بالنسبة للثقافة والتراث الإسلاميين باعتباره الإجرائية المنهجية والفكرية القادرة على إدماج المسلم (أفكاره، ثقافته، تراثه، معارفه ..الخ) في منظومة الفكر الإنساني المبدع والمنفتح على النقد والتقدم.
في كتابه الذي نحن بصدد عرض محتوياته (التنوير والثورة: دمقرطة الحداثة أم أخونة المجتمع. دار التنوير ومحمد علي. ط1. 2013) سيكمل الحداد ما ابتدأه عبر استراتيجية ستعنى هذه المرة براهن اجتماعي جديد وهو الثورة، عبر انشغال الشباب بها وبعثهم لها، حيث يقدم مقالات ودراسات تحاول من موقع المثقف أن تقارب شاغل الثورة اليومي وشاغلها التنظيري والاجتماعي المرتبط بما واجهته بلدان المنطقة ممن عايشت الثورات عبر مشاكل وعقبات اجتماعية وسياسية ودينية ومعرفية..الخ.
يتضمن الكتاب ما يقارب (238 صفحة)، توزعت بين نظرية الانتقال الديمقراطي وعلاقتها بالثورات العربية، وآفاق هذه الأخيرة في علاقتها بالتنوير وعلاقتها بالقضية الثقافية إجمالا.
يعي الحداد جيدا محدودية تأثير خطاب المثقفين ومكتوبهم، كما يعي في المقابل المكانة التي يشغلها الخطيب الديني والإعلام في التأثير على الجماهير وتوجيهها. لكنه يحاول أن لا يستسيغ هذا الواقع ويستسلم له، عبر كتاباته التي تحاول أن تقول المختلف والعلمي دون أن تنغمس في طوبوية واستعلائية الأكاديمي البعيدة عن هاجس التغيير المنبعث في الشباب المتحمس، لذا ستلبس مقالاته حلة التحليل تارة والتفسير تارة أخرى، محاولة الفهم والنصح في حالات كثيرة، نصح ليس بالضرورة أن يوجه للشباب فحسب، وإنما للسياسيين كذلك ممن غالبوا طموح الشباب وحماسهم وأقحموا أنفسهم مجددا في واقع لم يصنعوه لكنهم يحاولون كعادتهم الركوب عليه واغتنام نتائجه.
في أولى الملاحظات النقدية التي يوجهها الكاتب لكيفيات التعامل مع واقع الثورة، أنه لا ينبغي لنا أن نتعامل معها بمنطق الطفرة أو التفسير بالمؤامرة، وإنما التعامل العلمي الذي يجعل لها أسبابا مختلفة، يمكن أن يعود امتدادها للنقاشات التي طرحت في تسعينات القرن العشرين، فالثورة حسب هذا التحليل جزء من حراك تاريخي شامل بدأ حسب الباحث مع الموجة الثانية للعولمة. دون أن يشابه الثورات الطبقية في فرنسا وروسيا، أو الدينية في إيران، أو الانقلابات العسكرية. إننا إذن أمام واقع تستجيب أطرافه لما تجاذبته النقاشات والمطالب والآمال في المنطقة عبر نقاشاتها وواقعها الذي اتخذ خصوصية تميزت بتعقد الخارطة السياسية في المنطقة وتعدد أطرافها، إلى جانب حدوث هذه المتغيرات في ظل أزمة اقتصادية عالمية ليست كسابقاتها.
لهذا، فنجاح الثورات لابد أن نسترعي فيه الصراع العربي – الإسرائيلي، والأطماع حول موارد النفط والطاقة، والصراع الوهابي والصفوي، وصراع أمريكا على الإرهاب، كلها عوامل تجعل نجاح الثورات من الأمور المعقدة جدا، بل والباعثة على اليأس في أحايين كثيرة.
قدم الباحث في الكتاب دراسة حول فكرة العدالة عند أمارتيا سين، في علاقته بأستاذه جون رولز، وتمثلات الثرات الإسلامي للعدالة. فخلص لاختلافات في طرح سين يمكن حصرها في النقط التالية:
أن مشروع سين لا يدعي تقديم تصور لمجتمع يتسم بالكمال، بل يسلم بتعدد الشرعيات المرجعية وتباين وجهات النظر في الموضوع الواحد كأساس مرجعي. ويمنح الأولوية للسلوك الفعلي للأفراد في تحقيق العدالة على دور المؤسسات. وهو لا ينفي دور المؤسسات هنا ولا يستبعد قيم العقلانية. وإنما يحاول التقرير بأن العدالة لن تتحقق بالمؤسسات العادلة ووضع القواعد المجردة فحسب، وإنما بمتابعة الحالات الواقعية والإنصات لأحاسيس الناس وشعورهم بالعدالة من عدمها. ( مثال الانتخابات، وإضعاف الأنظمة الحاكمة للدولة رغم استجدائهم بوسائلها الحديثة لإبراز المسايرة والعدالة الشكلية، والدساتير ..الخ).
بالرغم من ذلك يرى الحداد أن الثورات لن تحقق مطالبها إلا بقيام دولة عادلة، وإن فشلت في ذلك ستفتح الباب لقيام ما أسماه الباحث بـ “البداوة السياسية”، القريبة من غرض أساسي للعولمة وهو إلغاء الدور السيادي للشعوب بتفكيك سيادات الدول. وإن كانت العولمة في المقابل أيضا تسعى إلى تقوية المجتمعات ضد الدولة.
لهذا، فإن قراءة الحداد لأمارتيا سين تروم الدفع بتحول فكرة العدالة من سياقها القديم ذي الطبيعة الفلسفية الطوباوية إلى فهم حديث ونسبي يجعلها عقد حقوق وواجبات ملزم للمتعاقدين ومتغير بحسب المستجدات.
وفي استفهام معرفي أبداه حول فكرة العادلة داخل التراث الإسلامي، فإن طرح العدالة خلوة عن العلاقة بالحرية يعد مشكلا ثقافيا لابد من تجاوزه. لأن التضحية بالحرية من أجل العدالة لن يجر علينا إلا انهيارهما معا، وهو ما حصل في الثورة الإيرانية، إن اعتبرنا تجوزا أنها حققت معيار العدالة.
في المحصلة فإن العدالة التي تستحق أن تصنف فعلا ثوريا تقطع مع ماضي الاستبداد حسب الكاتب هي التي تكون عدالة استحقاق، وليست هبة، وعدالة حرية، تستبعد خيار الفصل بينهما كقاعدة ومرجع أساسي. وأن تكون عدالة مساواة لا تقصي طرفا من الأطراف نساء ورجالا وغالبيات وأقليات، إذ من حق الجميع قطف ثمارها والعيش في كنفها.
يمكن التقرير بأن مؤلف الباحث يمكننا التعامل معه كمرجع تنويري للعديد من الشباب الفاعلين في الحراك الديمقراطي، بالأخص تتبعه للأحداث المستتبع لتحاليل يحتاجها الفاعلون لاستيعاب بعديات الفعل والخطاب الذي تموج به المنطقة. وعلى سبيل الاختزال يمكننا أن نقدم بعض أهم هذه الملاحظات النقدية التنويرية التي يمكن استثمارها، دون ان تغني عن الاطلاع على العمل ككل. والتي قد نجملها في التالي:
– التراث الليبرالي في المنطقة قابل لأن يكون قاطرة المنطلق لنهضة ثانية. كما الفرق بين الإصلاحية الدينية والإصلاحية الإخوانية، والعلمانية الليبرالية والعلمانية الشمولية، والحداثة النقدية والحداثة الاستئصالية.
– الرغبة في بلوغ الكمال في مجال السياسة وفي غيرها، من أبرز عوائق تطوير مجتمعاتنا، ببساطة لأن السياسة مجال للمكن.
– يؤكد الحداد بشكل متكرر على فكرة توافق الشرعيات لتحقيق أهداف الشعب ومصالحه، فالصواب تمثله وجهات نظر متعددة، رغم صعوبة إرساء ثقافة التوافق في مجتمعاتنا لا يعني ذلك استحالتها، كما ينبغي الحذر في المقابل من تحول فكرة الوفاق إلى خطة مكيافيلية تمهد للاستيلاء والسيطرة من جديد.
– لا ينبغي لنا أن ننسى بأن الربيع الديمقراطي قد بدأ حركة احتجاجية ضد الظلم وليس في الأصل مشروعا حزبيا أو إيديولوجيا. وقد لخص التونسيون ذلك في عبارتهم الشهيرة حول الشهيد البوعزيزي “البائع المتجول الذي أسقط صانع التحول”.
– إن الممارسة السياسية والبناء الديمقراطي المتدرج وحرية التعبير والجدل السياسي التوافقي…الخ، هي العوامل التي ستنتهي بتراجع الحركات الإخوانية، وليس بقمعها أو الانقلاب عليها، إذ بفعل الواقع ستتحول من نقاش الشريعة إلى نقاش البنزين والرغيف وتقترض من البنك الدولي وتعلن مواقف دبلوماسية مناسبة للقوة الحقيقية لدولتها وتخضع لضغوط القوى الكبرى، أي التحول باتجاه الواقعية السياسية.
– الشباب هم من حرر الحركات الإسلامية في تونس وفي غيرها من مناطق الحراك. وقد طالبوا بالحريات مطلقة ومشمولة بحرية الانترنت، لأنهم تعلموا الحرية منها لا من الإيديولوجيات.
– القيادات الذكية هي التي تنجح في الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة بأقل ما يمكن من العنف المادي والوجداني في آن، ولهذا لم يكن هاجس الشباب فصل الدين عن الدولة أو حرية المعتقد كما هو هاجس السياسيين، بل أن يشعروا بأنهم جزء من هذا الوطن.
يمكن التقرير إجمالا، بأن كتاب “التنوير والثورة” الذي يضم العديد من المقالات المتابعة للحراك في المنطقة منذ اندلاعه، وثيقة للذاكرة، ونموذج لانشغالات مثقفينا اليوم بعيدا عن كليشيهات التنقيص من أدوارهم، إلى جانب قيمة المادة المعرفية المقدمة فيه بالنسبة لجيل اليوم المقبل على الفعل في فراغ إيديولوجي طافح يميز المرحلة، كما يميزها تداخل الفاعلين والأحداث والمصالح وعولمة الإرهاب.

Read Previous

لا، الأسواق الحرة والازدهار لا يتطلبان الجشع أو الغرور

Read Next

حتميّة فلسفة جديدة للدولة العربيّة