من الغريب أن تصبح العولمة في الآونة الأخيرة القضية المفضلة للنشطاء اليساريين. فهؤلاء المتظاهرون القادمون من دول العالم الأول، يتظاهرون بتبنّي موقف أخلاقي سامٍ، إذ يزعمون الدفاع عن شعوب العالم الثالث، بينما يدعون في الوقت ذاته إلى سياساتٍ تُبقي تلك الشعوب في دائرة الفقر والبؤس.
إن مسار التنمية — أي انتقال المجتمعات التقليدية الزراعية إلى عصر الصناعة والمعلومات — مسارٌ مؤلم وشاقّ. وقد كان هذا التحول عسيرًا حتى على المجتمعات الغربية ذاتها، التي استغرق تطورها مئات السنين، فكيف بالدول النامية اليوم التي تحاول تحقيق ذلك في بضع عقودٍ فحسب؟
ومع ذلك، فإن هذا الألم لا بد من تحمّله في سبيل بلوغ حياة أفضل. فقد وصف الاقتصادي جوزيف شومبيتر الرأسمالية بأنها “تدمير خلّاق”، إذ إن كل ابتكارٍ جديدٍ يُنتج خاسرين كما يُنتج رابحين: فقد دمّرت السيارات صناعة العربات التي تجرها الخيول، وقضت الحواسيب على صناعة الآلات الكاتبة. ومن العدل أن تُنشأ مؤسساتٌ اجتماعية تخفف من آلام التحول، لكن من الظلم أن يُوقف هذا التحول نفسه.
بعض الناشطين الغربيين الميالين إلى الرومانسية يطنبون في الحديث عن جمال الحياة الريفية، لكن يبدو أنهم لم يزوروا يومًا قريةً فقيرة، أو ربما لم تطأ أقدامهم أرض دولةٍ نامية أصلاً. ففي مثل تلك البيئات، الحياة قاسية، والأمراض منتشرة، والأمل منعدم. لذا ليس غريبًا إذًا أن يفرّ الناس إلى المدن بحثًا عن فرصةٍ وحياةٍ أكرم. ومن الصعب تصديق أن أيًّا من أولئك المتظاهرين سيختار طواعيةً مثل تلك “الحياة الكريمة” التي يمجّدها.
وفي الواقع، يجب دائمًا النظر إلى مشاكل العولمة في سياق المقارنة: “بماذا نقارن؟ أجل، الأجور في مصانع الدول النامية منخفضة، لكن عمّالها لا يملكون المؤهلات أو المهارات التي تؤهلهم لتقاضي أجورٍ تضاهي أجور العالم المتقدم. فبديلهم ليس الدراسة في جامعة غربية أو العمل ة في مجال الحواسيب في وادي السيليكون، بل وظيفة محلية بأجرٍ أدنى أو بطالة كاملة. والاختيار واضح. فوفقًا لإدوارد غراهام من معهد الاقتصاد الدولي، تدفع الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات في الدول الفقيرة أجورًا تعادل ثمانية أضعاف ونصف متوسط الدخل الفردي لتلك الدول. وعمومًا، فإن مسار العولمة كان في صالح الفقراء. ففي ثمانينيات القرن الماضي، كانت الدول الصناعية المتقدمة تنمو أسرع من الدول النامية، لكن في التسعينيات، ومع تسارع وتيرة العولمة، بدأت الدول الفقيرة تنمو بمعدل 3.6% سنويًا، أي ضعف معدل جيرانها الأغنى.
ورغم أوهام النشطاء اليساريين بأن الثروة تسقط من السماء، فإن الفقر كان الحالة الطبيعية للبشرية طوال معظم التاريخ. وحتى كارل ماركس نفسه أقرّ بأن الرأسمالية هي التي أزالت الفقر المدقع الذي طبع العصور ما قبل الصناعية.
وما زال هذا صحيحًا حتى اليوم. إذ لا يرتبط الثراء الاقتصادي بعوامل مثل وفرة الموارد الطبيعية، أو حجم السكان وكثافتهم، أو حجم المساعدات الخارجية، أو الإرث الاستعماري السابق. العامل الوحيد الذي يُظهر علاقة واضحة بالثروة هو الانفتاح الاقتصادي. ويُظهر أحدث إصدار من تقرير الحرية الاقتصادية في العالم، الذي ينشره معهد كاتو وبمشاركة مراكز فكرٍ في خمسين دولة، أن الحرية الاقتصادية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالازدهار الاقتصادي، وأن السياسات التي تفتح الأسواق تؤدي بدورها إلى تسارع النمو الاقتصادي.
من خلال دمج الدول في السوق الدولية، تشجع العولمة على إجراء إصلاحات السوق الحرة، ومع هذه الإصلاحات تؤدي إلى زيادة الثروة. ولا شك أن القلق بشأن توزيع الدخل يبقى مشروعاً، لكن إذا لم يُنتَج شيء، فلن يكون هناك ما يمكن توزيعه أصلاً. وفي الواقع، فإن العولمة قد وزعت منافعها على نطاق واسع. ففي تقرير حديث للبنك الدولي، خلص الاقتصاديان ديفيد دولار وآرت كراي إلى أن دخل الفقراء يرتفع بمعدل يعادل تماماً معدل النمو الاقتصادي العام.
كما أن العولمة لها تداعيات سياسية مهمة، فـالحرية لا تتجزأ، إذ إن الحرية الاقتصادية تميل إلى إضعاف القيود السياسية. فقد تخلّت دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان عن أنظمتها الدكتاتورية عندما طالبت الطبقات الوسطى الصاعدة فيها بحقوق سياسية تتناسب مع الفرص الاقتصادية التي اكتسبتها. ويسهم الاستثمار والتجارة الدوليان أيضًا في كبح النزعات القومية والعسكرية. صحيح أن العولمة وحدها لا تكفي لمنع الحروب –فالتجارة لم تمنع اندلاع الحرب العالمية الأولى– لكنها تخلق حوافز اقتصادية قوية للسلام، وتُضفي وجهًا إنسانيًا على شعوبٍ قد تُرى لولا ذلك كأعداء. والنتيجة بيئةٌ أفضل لتعزيز الانسجام والتفاهم الدولي. وكغيرها من الظواهر الإنسانية، للعولمة سلبياتٌ كما لها إيجابيات، غير أن الإيجابيات تفوق بكثير سلبياتها. فبالنسبة لغالبية البشر، وفي معظم الجوانب، تُعدّ العولمة ظاهرة إيجابية.
أما الناشطون الذين يسعون إلى تدمير هذه العملية، فإنهم في الواقع يحكمون على فقراء العالم بالبقاء خارج الاقتصاد العالمي. والنهج المسؤول ليس في إيقاف العولمة، بل في بناء ضوابط أخلاقية ومؤسساتٍ اجتماعية تضمن ألا يُترك من يملكون أقلّ الفرص خلف الركب، فيما تغيّر قوى العولمة حياة الناس ومجتمعاتهم.
دوغ باندو – زميل أقدم في معهد كاتو
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://www.cato.org/commentary/globalization-serves-worlds-poor
