عندما يتحدث السياسيون اليوم عن الديمقراطية، فإنهم يقصدون بها المشاركة الشعبية في سلطة الحكومة الكبيرة، وتحديدًا عبر صناديق الاقتراع. لكن هذا ليس المعنى الوحيد، ولم يكن دائمًا الفهم السائد لهذا المصطلح. على سبيل المثال، في كتابه الكلاسيكي الديمقراطية في أمريكا، قدّم ألكسيس دو توكفيل رؤية أوسع للديمقراطية، تتجاوز مجرد التصويت لتشمل المشاركة المجتمعية والتعاون الطوعي بين الأفراد.
الديمقراطية عند توكفيل: الحرية بين المشاركة والاستبداد
خلال رحلته إلى أمريكا، اندهش توكفيل من العدد الهائل من الجمعيات التي رآها، ومن الطريقة التي كان السكان المحليون يجتمعون بها طواعية لإنجاز مشاريع ضخمة مثل بناء المستشفيات والكنائس والمدارس. بالنسبة لتوكفيل، كان هذا النوع من التجمع الحر داخل المجتمع المدني غير الحكومي جزءًا أساسيًا من الديمقراطية، كما أنها شكلت حصنا منيعا ضد الطغيان المحتمل للحكومة المنتخبة ديمقراطيًا.
لم يكن مفهوم الديمقراطية عند توكفيل يقتصر فقط على التصويت لتعيين المسؤولين الحكوميين، بل كان يتعلق أكثر بقدرة المجتمع على التكاتف لمواجهة تحديات الحياة المشتركة. لقد فهم الديمقراطية على أنها ظاهرة قاعدية وشعبية، حيث يسير الأفراد شؤونهم بأنفسهم. ومع ذلك، كان توكفيل يخشى أن تشكل الديمقراطية يومًا ما تهديدًا للحريات بدلاً من الحفاظ عليها. فقد حذر من ” طغيان الأغلبية”، الذي وصفه بأنه شكل من أشكال “الاستبداد الناعم” أو “الاستبداد الديمقراطي”.
إن الاستبداد الديمقراطي لا يختلف فقط عن الديمقراطية التوكفيلية، بل هو يتعارض مع جوهرها تمامًا. فعلى سبيل المثال، أدى الاستبداد الديمقراطي إلى ظهور دولة الرفاه، التي حلت محل الكنائس المحلية والجمعيات الخيرية التطوعية التي كانت قد أثارت إعجاب توكفيل. ورغم أن دولة الرفاه وُجدت لتخفيف المعاناة والمشقة، إلا أنها في نهاية المطاف عمّقت تواكل الأفراد على الدولة، محوّلة المواطن إلى مجرد رعية. والأسوأ من ذلك، أن دولة الرفاه، من خلال إسناد مسؤولية المجتمع إلى بيروقراطية حكومية بعيدة، نزعت مسؤولية المجتمع عن نفسه، مما أدى إلى تدمير الروابط المجتمعية وعزل الأفراد عن بعضهم البعض.
من جهة، عززت الديمقراطية التوكفيلية الروابط الاجتماعية وبنت مجتمعات متماسكة من خلال تمكين الأفراد من العمل معًا للتغلب على التحديات. ومن جهة أخرى، أدى الاستبداد الديمقراطي إلى تقسيم الأمة، وتدمير المجتمعات، وإضعاف النسيج الأخلاقي للبلاد.
الديمقراطية عند ميزس: السوق بمثابة صندوق للاقتراع
لا يؤدي الاستبداد الديمقراطي إلى تآكل المجتمع المدني فحسب، بل يقوض أيضًا جانبًا آخر مهمًا من الديمقراطية: ديمقراطية السوق.
لكن كيف يمكن اعتبار السوق نظامًا ديمقراطيًا؟ في الديمقراطية السياسية، تمثل الأصوات الشعبية دعمًا لحزب أو مرشح أو قانون معين. وبالمثل، في “ديمقراطية السوق” (أي الرأسمالية)، يمثل المال المنفق تأييدًا لعمل أو شركة أو/و منتج معين. وكما أوضح الاقتصادي لودفيغ فون ميزيس:
“المستهلكون، وليس رواد الأعمال، هم من يدفعون في النهاية أجور جميع العمال، من نجم السينما البارز إلى عامل النظافة البسيط. فمع كل بنس ينفقونه، يمارس المستهلكون قوة غير مرئية ولكن حاسمة، حيث يحددون مسار كل عمليات الإنتاج ويؤثرون في تفاصيل تنظيم الأنشطة التجارية على جميع الأصعدة. هذه الديناميكية يمكن أن توصف بأنها “بديمقراطية السوق”، حيث يمنح كل بنس كل فرد، عبر اختياراته الاستهلاكية، الحق في الإدلاء بصوت”.
والأهم من ذلك، أن ديمقراطية السوق أكثر عدالة من الديمقراطية السياسية. فكما كتب ميزيس: “في الديمقراطية السياسية، فقط الأصوات التي تذهب لصالح مرشح الأغلبية أو خطة الأغلبية هي التي تؤثر بفعالية في مسار الأمور. أما في السوق، فلا يوجد صوت يذهب هباءً. كل بنس يتم إنفاقه لديه القدرة على التأثير على عمليات الإنتاج.”
وهكذا، لا يتم تهميش رغبات الأقلية من قبل الأغلبية، بل كلاهما قادر على التأثير على الإنتاج في وقت واحد، ولكن بدرجات مختلفة. فمثلًا، إذا أراد شخص ما دعم الشركات الصديقة للبيئة، يمكنه القيام بذلك دون منع أو حرمان الآخرين من دعم أعمال مختلفة. أما في الديمقراطيات السياسية، الوضع مختلف تمامًا؛ من المستحيل أن يحدث هذا حرفياً: حيث لا بد أن تسود وجهة نظر واحدة، فالنظام السياسي يتبع قاعدة ” الفائز يأخذ كل شيء” من حيث مسألة التمثيل. في المقابل، في ديمقراطية السوق، يختلف الأمر تمامًا، حيث لكل دولار قيمة ووزن، مما يسمح بتعدد الأذواق والتفضيلات، الخيارات وتعايش مختلف الرغبات، حيث يُعبّر كل فرد عن اختياره بحرية من خلال قراراته الاستهلاكية.
لكن كيف يمكن لديمقراطية السوق أن تكون عادلة، في حين أن الأثرياء لديهم قوة تصويتية أكبر من الفقراء؟ يجيب ميزيس: “صحيح أن المستهلكين في السوق لا يتمتعون بحقوق تصويت متساوية. فالأغنياء يصوتون أكثر من الفقراء. لكن هذا التفاوت نفسه هو نتيجة عملية تصويت سابقة. فلكي يصبح الشخص غنيًا في اقتصاد السوق الحر، عليه أن ينجح في تلبية احتياجات المستهلكين بشكل أفضل. ولا يمكن للثري أن يحتفظ بثروته إلا إذا استمر في خدمة المستهلكين بأكثر الطرق كفاءة.”
عند التفكير في عدالة ديمقراطية السوق، يجب أن نتذكر أن الفقر هو الحالة الطبيعية للبشرية. ولكن على الأقل، تتيح ديمقراطية السوق لأي فرد، بغض النظر عن أصوله، امكانية الوصول إلى القمة من خلال تقديم خدمة قيمة للمجتمع. وفي المقابل، نجد أن الديمقراطيات السياسية ترفع الأفراد إلى القمة من خلال خطب ديماغوجية مليئة بالوعود الجوفاء.
في ديمقراطية السوق، تُكتسب “أصوات الدولار” من خلال خلق قيمة حقيقية للآخرين، فإن تدخل الحكومات في سير الأسواق يصبح شكلاً من أشكال قمع حرية “الناخبين” والتلاعب بنتائج “الانتخابات” الاقتصادية. فكلما زادت تدخلات الديمقراطية السياسية في شؤون السوق، تقلّ قيمة تفضيلات المستهلكين وأصواتهم. وفي النهاية، تتحول السلطة من الشعب إلى فئة نخبوية توظف القرارات الاقتصادية لصالحها على حساب بقية المجتمع.
ديمقراطية الحكومة الكبيرة
إنها لمفارقة مؤلمة أن تهاجم الحكومة الكبيرة المجتمع المدني والرأسمالية باسم “الديمقراطية”، مما يجعل المجتمع أقل ديمقراطية. فأفعال الحكومة الكبيرة تتعارض مع تمثيل الشعب فعليًا. فالديمقراطية التوكفيلية تمنح الأفراد صوتًا اجتماعيًا، بينما تمنحهم الديمقراطية الميزيسية صوتًا اقتصاديًا. أما الاستبداد الديمقراطي هو الذي يسكت صوت الشعب، بسلبه كليهما.
لذلك فلإعادة تأهيل الديمقراطية الحقيقية، يجب علينا تحرير مجتمعاتنا وأسواقنا.
أكسل ويبر هو زميل في مشروع هنري هازليت للصحافة التعليمية التابع لمؤسسة FEE وعضو في فريق PolicyEd في مؤسسة هوفر.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.