يتفق الجميع تقريبًا على أن هناك وظائف أساسية لا غنى عن الحكومة لتوفيرها — وعلى رأسها القانون والعدالة — في حين يعتقدون باستحالة تمكن اقتصاد السوق الحر من تأمينها. ومع ذلك، هناك قلة من المفكرين المتمردين الذين يتحدون هذه الحكمة التقليدية، متسائلين: هل نحتاج حقًا إلى الدولة لتوفير العدالة، أم أن السوق قادر على تقديمها بشكل أكثر كفاءة؟
ومن أبرز هؤلاء المفكرين نجد البروفيسور بروس بنسون، أستاذ الاقتصاد بجامعة ولاية فلوريدا، الذي يدرس هذه القضية منذ عقود. كتابه مؤسسة القانون، الذي نُشر لأول مرة سنة 1990، أعيد نشره وتحديثه، مما جعله أكثر أهمية في ظل التطورات التي شهدتها العقود الأخيرة.
يذكرنا بنسون قائلاً: “أصبح استياء الأفراد من العديد من المؤسسات القانونية العامة اليوم أكبر مما كان عليه في سنة 1990”. فالحكومة تُصدر العديد من القوانين السيئة، وتُقصّر في تطبيق القوانين الجيدة. إذن، لماذا نفترض أن القانون والعدالة — اللذان يشملان حماية الأفراد والممتلكات، وحل النزاعات، وإجراء المحاكمات، وتنفيذ العقوبات — لا يمكن توفيرها إلا من قبل الدولة؟ في الواقع، يُظهر بحث بنسون أن النظام القانوني والقضائي الحكومي مكلف للغاية، وغير فعال، وغالباً ما يكون غير عادل.
يبدأ بنسون بعرض تاريخ تطور القانون وتطبيقه، وهو تاريخ من شأنه أن يفاجئ معظم القراء. يكتب بنسون: “اعتمادنا الحديث على الحكومة في سن القوانين وفرض النظام ليس هو القاعدة التاريخية. ففي الولايات المتحدة وبريطانيا، لم تُنشأ قوات الشرطة العامة حتى منتصف القرن التاسع عشر — وقوبلت بمعارضة شعبية واسعة”.
في السابق، كانت الجهات الخاصة هي التي تطبق في الغالب القوانين العرفية التي نشأت بمرور الزمن وأثبتت فعاليتها — وليس القوانين التي يصدرها الملك. يشير بنسون إلى “قانون التجار”، وهو مجموعة من القواعد التي نشأت بمرور الزمن لتنظيم التعاملات التجارية. وغالباً ما كان هؤلاء التجار ينتمون إلى دول مختلفة، ولم يكن بإمكانهم الاعتماد على القوانين التجارية (لأنها لم تكن موجودة)، ولا على المحاكم الحكومية (لأن القضاة لا يمكن الوثوق بهم في فهم النزاعات أو الحكم فيها بعدالة). لذلك، أنشأ التجار، بطريقة تلقائية قائمة على نظامهم الخاص، والذي نجح لعدة قرون.
إذن، لماذا أصبحت الدولة تهيمن على القانون والعدالة؟ السبب هو ذاته الذي يدفع الحكومات للسيطرة على أي مجال: الرغبة في إحكام السيطرة واستفادة جماعات المصالح الخاصة من هذه الهيمنة. لم تفشل آليات القانون العرفي والعدالة؛ بل تم سحقها عمداً على يد الحكام لا يهمهم إلا تعظيم سلطتهم وثرواتهم. فبعد الغزو النورماني، استُبدل القانون الأنجلو-ساكسوني التقليدي، الذي كان يقوم على جبر الضحايا، بمحاكم تديرها السلطة الملكية. لماذا؟ في المقام الأول لأن التاج كان يجمع الغرامات التي تصب في خزائن الحكومة الاحتكارية.
تم التخلي عن نظام جبر الضحايا القديم لصالح نظام القانون الجنائي، ليس بناءً على رغبة الشعب، بل إرضاء للطبقة الأرستقراطية. يُعد الفصل في كتاب بنسون الذي يتناول التحولات في النظام القانوني الإنجليزي منذ الغزو النورماني حتى القرن الثامن عشر هو في آنٍ واحد شيق ومحبط؛ إذ يكشف كيف تم ترسيخ النظام الحالي للعدالة الجنائية — الذي غالباً ما يتحول إلى مصدر لمزيد من الظلم.
بتطبيق نظرية الاختيار العام، يوضح بنسون كيف يركز نظامنا القانوني الحالي على خدمة المصالح الخاصة لجماعات الضغط ذات النفوذ الأقوى بدل توفير القوانين المثلى وتطبيقها لصالح المجتمع. فالقوانين التي تُجرم تعاطي المخدرات، والمقامرة، وغيرها من الجرائم المصنفة ك”الجرائم بدون ضحايا”، هي فقط نتيجة لضغط جماعات المصالح التي تستفيد من وجودها. تمرير مثل هذه القوانين يفرض تكلفة زهيدة على تلك الجماعات، لكنه يثقل كاهل بقية المجتمع بتكاليف باهظة.
علاوة على ذلك، فإن الجهات المنفذة نفسها تمثل جماعات مصالح قوية. فالشرطة، على سبيل المثال، تطالب باستمرار بتوسيع صلاحياتها وزيادة ميزانياتها. وليس من المستغرب أن يكون العديد من رجال الشرطة، والبيروقراطيين، والوكلاء الخاصين الذين يعيشون من “الحرب على المخدرات” من بين أشدّ المؤيدين لاستمرارها.
من بين الأضرار الجسيمة التي نعاني منها نتيجةً لتصاعد “القوانين السلطوية” أن الشرطة والمحاكم أصبحت غير خاضعة للمساءلة أمام الشعب الذي يُفترض أن تكون في خدمته. فالشرطة تنتهك بانتظام حقوق الأفراد أثناء التحقيقات والاعتقالات، لكن الضحايا يجدون صعوبة في ملاحقة المسؤولين أو محاسبتهم. في بعض الحالات، يتم إيقاف الضباط الذين انتهكوا حقوق الأشخاص عن العمل أو إنهاء خدمتهم، وتُستبعد الأدلة التي تم الحصول عليها بطرق غير قانونية من المحاكمة. لكن هذه التدابير نادراً ما تردع سوء السلوك بشكل فعال.
أما فيما يتعلق بقاعدة الاستبعاد— التي تمنع استخدام الأدلة المُصادرة بشكل غير قانوني في المحاكمة — فيعلق بنسون قائلاً: “من وجهة نظر المسؤولين الحكوميين، فإن قاعدة الاستبعاد غير مكلفة. لا يُكلّف إطلاق سراح المُجرمين المُذنبين أموالاً طائلة… إن غضب المواطنين من فشل الحكومة في إدانة المجرمين مُوجّه نحو المحاكم وقواعد استعمال الأدلة الخاصة بها”.
تعاني القوانين الحكومية وتطبيقها من ضعف إلى حد مثير للقلق. ولهذا، يتجه الناس بشكل متزايد إلى الأمن الخاص وحل النزاعات بوسائل خاصة، رغم توفر خدمات العدالة والقانون “المجانية”. لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن تفضيلات المستهلكين ليس لها تأثير يُذكر على هذه المؤسسات، التي تستمد تمويلها من تحصيل الضرائب ولو حتى من غير رضا المواطنين. لهذا السبب، فإن النهضة التي يتوقعها بنسون في مجال القانون الناشئ قد لا تتحقق قريبا.
جورج ليف هو رئيس تحرير سابق لقسم مراجعة الكتب في مجلة The Freeman، ويشغل حالياً منصب مدير الأبحاث في مركز جون دبليو بوب لسياسات التعليم العالي.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.