يذهب كثيرون إلى القول إنّ الديمقراطية غير متوافقة مع الرأسمالية، غير أنّهم يختلفون حول الجهة التي ستقضي على الأخرى: أهي الديمقراطية التي ستقتل الرأسمالية، أم الرأسمالية التي ستقضي على الديمقراطية؟ فبيتر تيل، مثلاً، صرّح ذات يوم قائلاً: «لم أعد أؤمن بأنّ الحرية والديمقراطية متوافقتان «.
ويعود أصل هذا الجدل إلى زمن بعيد؛ إذ إن الاقتصاديين الكلاسيكيين من آدم سميث إلى جون ستيوارت ميل كانوا جميعًا يخشون أن تؤدي الديمقراطية إلى القضاء على الرأسمالية. حتى ماركس وإنجلز وافقا على هذا التحليل، قائلين إنه في ظل الديمقراطية: ستستخدم البروليتاريا (الطبقة العاملة) تفوقها السياسي لانتزاع رأس المال تدريجيًا من البرجوازية، ولتركّز جميع وسائل الإنتاج في يد الدولة” …لكن اختلافهما كان في أن ماركس وإنجلز رحّبا بهذه الثورة بدلًا من معارضتها. وفي المقابل، معسكر آخر من الاقتصاديين المعاصرين مثل روبرت رايش وجوزيف ستيغلتز، يرى – على حدّ تعبير رايش – أنّ «الرأسمالية تقتل الديمقراطية»، لأنّ «الشركات العملاقة وأصحاب المليارات يستثمرون أموالاً طائلة في جماعات الضغط والعلاقات العامة والرشاوى، سعياً وراء قوانين تمنحهم تفوّقاً احتكارياً على منافسيهم «
غير أنّ هناك طرحاً ثالثاً، يتبنّاه مفكرون من أمثال فريدريك هايك ولودفيغ فون ميزس وميلتون فريدمان، يرى أنّ الرأسمالية والديمقراطية متوافقتان بل متعاضدتان. فقد كتب ميزس قائلاً: «إنّ الليبرالية لا بدّ أن تطالب بالديمقراطية بوصفها نتاجٍ سياسيٍ ملازمٍ لها «
وفي بحثي الأخير (بالمشاركة مع فينسنت جيلوزو) المنشور ضمن كتاب هل يمكن التوفيق بين الديمقراطية والرأسمالية؟، نتبنّى هذا الرأي الثالث، ونبرهن – من خلال البيانات – على أنّ الديمقراطية والرأسمالية تسيران جنباً إلى جنب. كما نعرض عدداً من الآليات التي تفسّر هذا الارتباط.
البيانات واضحة كلّ الوضوح: كلّ دولة ديمقراطية كبرى هي دولة رأسمالية، وكلّ دولة رأسمالية تقريباً هي ديمقراطية – مع استثناءين هما سنغافورة وهونغ كونغ. ويُظهر البحث أيضًا أن التغيرات في مستوى الديمقراطية ترتبط إيجابيًا بالتغيرات في مستوى الحرية الاقتصادية. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال تجربة طبيعية هي سقوط جدار برلين. فقد أدّى سقوط الجدار إلى صدمة إيجابية كبيرة للديمقراطية، تبعتها زيادات كبيرة ومستدامة في الحرية الاقتصادية.
يُقال أحياناً إنّ الأنظمة السلطوية وحدها قادرة على «فرض» زيادات كبيرة في الحرية الاقتصادية، وهذه مقولة خاطئة. صحيح أنّ بعض الأنظمة السلطوية شهدت ارتفاعاً في مؤشرات الحرية الاقتصادية، لكنّ دراستنا تناولت أهمّ هذه الحالات – في البيرو ونيكاراغوا وأوغندا وتشيلي – وتحديداً حالة البيرو التي تقدّم دروساً عامة.
بدأت البيرو في سبعينيات القرن الماضي بنظام سلطوي ومستوى متواضع من الحرية الاقتصادية. ثمّ تراجعت الحرية في ظلّ الاستبداد إلى مستويات أدنى من أيّ ديمقراطية. ومع إدخال إصلاحات ديمقراطية محدودة، حدثت زيادات متواضعة في الحرية الاقتصادية. أما في عهد النظام السلطوي لفوجيموري (Fujimori)، فقد شهدت البلاد قفزات كبيرة في الحرية الاقتصادية، والتي تم لاحقًا تثبيتها وتعزيزها وترسيخها في عهد الحكومات الديمقراطية خلال العقد الأول من الألفية.
وما نتعلّمه من هذه التجربة أنّ الأنظمة السلطوية قادرة على خفض الحرية الاقتصادية كما على رفعها. وأحد الأسباب التي تجعلنا أحيانًا نرى زيادات كبيرة في الحرية الاقتصادية تحت الأنظمة السلطوية هو ببساطة أنها تبدأ من حالة انهيار خلفها النظام السابق. فمن السهل تحقيق قفزات كبيرة في الحرية الاقتصادية عندما يكون مستوى الانطلاق أقل بكثير من أي نظام ديمقراطي. وعلاوة على ذلك، فإن حالة بيرو تُعدّ نموذجية من حيث إنه عندما يُقام نظام ديمقراطي، فإنه عادةً لا يرفض الإصلاحات الاقتصادية السابقة، بل يُقِرّها ويُعزّزها ويُرسّخها.
فما الذي يفسّر هذا الترابط بين الديمقراطية والحرية الاقتصادية؟ هناك سببان رئيسيان:
أولاً: هناك طريقتان لتحقيق الثراء: إعادة التوزيع والنموّ. فإعادة التوزيع قد تُغني أقليةً على حساب الأغلبية، إذ يمكن لدكتاتور أن يعيش في ترفٍ وسط بؤس الشعب، لكن لا توجد سياسة توزيع يمكن أن تُغني الأغلبية. الازدهار الواسع لا يأتي من تقسيم الثروة، بل من خلقها عبر سياسات رأسمالية تشجّع النموّ. ولذلك فإنّ من مصلحة الشعوب في الأنظمة الديمقراطية أن تدعم النموّ، لأنّ طريق الثراء الجماعي يمرّ عبر الحرية الاقتصادية. وهذا الحافز ليس ضمانًا بالطبع، إذ يمكن للناخبين الديمقراطيين أن يصوّتوا لسياسات سيئة، لكن إن أرادوا الثراء، فعليهم أن يفكروا في النمو — أي في الرأسمالية.
ثانياً: الاشتراكية الديمقراطية، عاجلاً أم آجلاً، تنزلق إلى الاشتراكية السلطوية. وكما قال روبرت دال: «ليس قصور الاقتصاد الموجّه مركزياً في الكفاءة هو ما يهدّد الديمقراطية في المقام الأول، بل عواقبه الاجتماعية والسياسية. فحين تضع اقتصاداً بأكمله تحت تصرّف قادة الدولة، فأنت تمنحهم سلطةً مطلقة – والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة «.
إنّ الاقتصاد الموجَّه يوجّه إلى الحاكم رسالة واضحة بالخط العريض: “أنتم أحرار في استخدام كل هذه الموارد الاقتصادية من أجل ترسيخ سلطتكم والحفاظ عليها!”
خلاصة القول : إذا كنتَ تؤمن بالحرية الاقتصادية، فالديمقراطية هي سبيلك إليها. وإذا كنتَ تؤمن بالديمقراطية، فإنّ الحرية الاقتصادية هي الضامن لاستمرارها. إنّ كليهما – الديمقراطية والرأسمالية – ليسا خصمين كما يظنّ البعض، بل هما ركيزتان متكاملتان لنهضة الإنسان وازدهار المجتمع.”
بقلم ألكس تبارّوك – أستاذ الاقتصاد بجامعة جورج ميسون، ومؤسِّس مشارك لمنصّة التعليم الإلكتروني MRU.org
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://fee.org/articles/democracy-and-capitalism-are-mutually-reinforcing/
