تركز هذه المقالة على المعايير التي تساعد على توضيح النطاق الأمثل لعمل الحكومة والأسئلة التي تتناول العلاقة بين الفرد والدولة. وتبدأ المقالة ببعض التوضيحات المتعلقة بمفهوم الدولة لأن الكثير من البنى التي درجت العادة على اعتبارها “دولا” تقصر عن تحقيق حتى المتطلبات الأولية التي يحتويها أي جدل معياري حول ما ينبغي لـ”الدولة” أن تفعله. وتخلص المقالة إلى المحاججة بأن النظرة الكلاسيكية للدولة المحدودة هي النظرة المثلى، أي: توفير الدولة لأفضل ما يمكن من مستويات الدفاع عن الحريات الاقتصادية والشخصية. المنظومة المؤسساتية والدولة يرينا التاريخ أن كل مجموعة بشرية مناطقية كبيرة العدد ومستمرة الوجود لا بد أن تتبنى مجموعة من القواعد بين الأشخاص، وعندما أصبحت المجتمعات أكثر حداثة تبنت منظومة من البنى التنظيمية التي تحكم عمليات التعاون وتسوية النزاعات والدفاع، وبعض هذه المنظومات المؤسساتية تدعى “دولا”، وإذا أردنا أن نعرف ما إذا كانت هذه المجموعة البشرية أو تلك تمتلك منظومة مؤسساتية دولتية أم لا فإن من الواضح أن ذلك يعتمد على تعريف (الدولة)، والتعريف الأكثر استخداما هو الذي صاغه ماكس فيبر بقوله: (توجد الدولة متى ما تواجد جهاز خاص يتمتع باحتكار استخدام القوة في منطقة ما)؛ [1] فالبنى التي لا تحقق هذا الشرط لا تعتبر من الدول، وعلى سبيل المثال: لا ينطبق تعريف الدولة على الجمعيات الخيرية لكنه ينطبق على “دولة الرعاية الاجتماعية”. ويقضي تعريف فيبر بأن البنى التي ترتكب فيها الزمرة الحاكمة جرائم ضد الأعضاء الآخرين الذين يعيشون في المنطقة نفسها لا ينزع هذا الفعل عنها صفة الدولة، لكنها تعتبر دولة افتراسية (كما هو الحال مثلا في جمهورية زائير السابقة تحت حكم موبوتو سيسيسيكو). ويمكننا أن نبدأ الجدل حول النطاق الأمثل لنشاط الدولة بالرجوع إلى مفهوم روبرت نوزيك لـ(دولة الحد الأدنى)، أي: الدولة المحدودة “بوظيفتين هما: حماية كل مواطنيها من العنف والسرقة والاحتيال، وفرض تنفيذ العقود”. [2] هل يختلف نموذج الدولة المثلى باختلاف المجتمعات؟ هل تعتمد النظرة حول الدولة المثلى على خصائص الدول الموجودة فعليا أم على ميزات المجتمعات التي تشكلها؟ وعلى سبيل المثال: هل يجب أن يزيد (أو يقل) أداء الدولة في البلدان الأفقر بالمقارنة مع البلدان الأغنى؟ أمأن النطاق الأمثل لنشاط الدولة يعتمد على التركيبة الإثنية للسكان وما ينتج عنها من مدى معين من التوتر بين الإثنيات؟ وهنالك قضية أخرى تتمثل في ما إذا كان النطاق الأمثل للحكومة ينبثق من العملية الديمقراطية، وإذا كان هذا هو الحال فيمكن المحاججة بأن النطاق الأمثل للدولة في بعض المجتمعات يتضمن المزيد من إعادة التوزيع على حساب النمو الاقتصادي، بينما تفضل مجتمعات أخرى مقدارا أقل من إعادة التوزيع والمزيد من النمو. وعلى الرغم من ذلك، فإن اعتبار قاعدة الأكثرية معيارا لتقييم أفعال الدولة أمر ينطوي على المخاطرة، وذلك لأنه يعني ضمنيا ضرورة القبول بأي قرار تتخذه الأكثرية، بما في ذلك: اضطهاد الأقليات والاستملاك الحكومي والمصادرة الضرائبية، ولذلك فإن قاعدة الأكثرية يجب أن يجري تقييدها، مما يبرز الحاجة إلى معايير أخرى لوضع تصور دقيق لنطاق الدولة. إن الجواب على السؤال المتعلق بما إذا كانت الدولة المثلى تختلف باختلاف المجتمعات يعتمد كثيرا على ما إذا كان الأفراد في الأوساط الاجتماعية المتنوعة يختلفون على نحو جوهري، وأنا أعتقد بأن هنالك مكونات ثابتة تحفيزية وإدراكية قوية تدخل في تركيب الطبيعة البشرية، ولذلك فإن هنالك تشابها واسعا للنطاق الأمثل للدولة بين الأوساط الاجتماعية المختلفة؛ فالسياسات المستندة إلى الرأي المعارض (الافتراض مثلا بأن المجتمعات الأفقر تحتاج إلى دولة أكثر تدخلا لأن المزارعين الفقراء لا يستجيبون بشكل جيد للمحفزات الاقتصادية المعيارية) كانت ولا زالت السبب الرئيسي لاستمرار الفقر في العالم الثالث. [3] وهنالك خطأ أكثر دراماتيكية بكثير دأب الماركسيون على اقترافه، حيث يفترض هؤلاء بأن التخلص من الملكية الخاصة من شأنه أن يؤدي إلى إنتاج فرد جديد أفضل مما كان عليه. وهنالك نسخة أكثر حداثة من المغالطة الدولتية تشير إلى القصور المعلوماتي للأسواق (أي: الأفراد) في المجتمعات الأفقر باعتباره مبررا يسوغ اللجوء إلى دولة مثقلة بالضوابط أكثر، وهي نصيحة تثير الحيرة لأن الضوابط الفعلية المتبعة في العالم النامي وصلت إلى مدى يتجاوز ما يمكن تبريره استنادا إلىأي اعتبار من اعتبارات الكفاءة. [4] كما يجب علينا النظر في إمكانية نقل بعض الوظائف التي تتولاها المجموعة المثلى من أنشطة الدولة إلى هيئات خارجية كالمنظمات الدولية، وعندها سنواجه مسألة التوزيع الأمثل لهذه المجموعة من أنشطة الدولة وما يتعلق بها من قضية تغير دور الدولة الوطنية. وهذه القضايا وأمثالها تقع في صلب الجدل الدستوري في الاتحاد الأوروبي. [5] معايير صياغة مفهوم الدولة المثلى لا يمكن الاكتفاء بما تطرحه المقاربة الاقتصادية المعيارية لصياغة التشكيلة المثلى لوظائف الدولة، [6] ويمكن القول على نحو أكثر تخصيصا بأن الاقتصاديين عندما أشاروا [7] إلىأن “من الأدوار الرئيسية للدولة” توفير الإطار القانوني “الذي تحدث ضمنه جميع التعاملات الاقتصادية”، فإنهم لم يتكلموا كثيرا حول المحتوى الذي يرغبون بأن تتضمنه القوانين، وكيفية تأثيراتها المحتملة على مرغوبية أو كفاءة فرضها. ويضاف إلى ما سبق أن هؤلاء لم يوردوا أي إشارة فعلية إلى آليات الفرض اللادولتي وعلاقتها بآليات الفرض الدولتي، مما يخلق انطباعا بأن عملية تسوية النزاعات في الحياة الاقتصادية تجري بأكملها ضمن نطاق الدولة لا محالة، وهو انطباع يتناقض مع الدليل التجريبي. [8] هذا التشوش يتصل باستخدام مفهوم للسلع العمومية يعتبرها غير تزاحمية في الاستهلاك وغير حصرية، [9] فإذا كان ينبغي التزويد بهذه السلع فلا بد من الاستعانة بالضرائب وغيرها من الإجراءات الإجبارية الدولتية، لكن السؤال الذي يبرز هنا: ما هي السلع التي يمكن اعتبارها سلعا (عمومية) حقيقية؟ وهل المنظومة العدلية تدخل في نطاق الدولة لأن ما يتعلق بها من خدمات تدخل في نطاق السلع العمومية؟ من الواضح أن هذا الأمر لا يسري على كل الخدمات، وهنا لا بد من السؤال: ما هي “الخدمات العدلية” التي تشكل سلعا عمومية؟ فهل يمكن اعتبار المنارات البحرية، وهي المثال المفضل في مناهج علم الاقتصاد عن السلع العمومية، من السلع العمومية؟ لقد أشار رونالد كوز [10] إلىأن المنارات البحرية في بريطانيا أثناء القرن التاسع كان يجري تشغيلها وتمويلها من قبل القطاع الخاص، لكن هذا الاكتشاف لم يمنع الاستمرار في استخدام المنارات البحرية كمثال رئيسي للسلع العمومية في الكثير من كتب المناهج الجامعية لتدريس علم الاقتصاد. [11] وربما نجد في الحياة الواقعية سلعا عمومية أقل من العدد المفترض في العادة، ونتيجة لذلك فإن النطاق الضروري (أو المرغوب) لنشاط الدولة ربما يكون أضيق أيضا؛ فبعض السلع التي يُعلَن بأنها “عمومية” ربما تكون في حقيقتها سلعا خاصة أزيحت إلى نطاق الدولة بتأثير التدخل العمومي الذي أزال أو اقتطع من احتمالية التمويل الخاص الطوعي لتوفيرها. ويمكن القول بعبارة أخرى بأن بعض استخدامات المفهوم النظري للسلع العمومية ربما يشكل، ودون تعمد، مبررات ذات أثر رجعي تشمل نتائج التوسع السابق لنشاط الدولة. إن مفهوم (الخرجانياتExternalities) يعاني من نقاط ضعف مشابهة، فمن السهل جدا أن يرى أحدهم بأن المنافع الاجتماعية أكبر من المنافع الخاصة (الخرجانيات الموجبة) أو بأن التكاليف الاجتماعية تتجاوز التكاليف الخاصة (الخرجانيات السالبة) مما يفضي إلى المطالبة بالتدخل العمومي. وقد أثبت الخبراء بأن هنالك على الأقل بعض الخرجانيات التي قد تنشأ من أوجه النقص التي تعاني منها المؤسسات، وبالخصوص: حقوق الملكية غير المحددة بشكل مناسب. [12] ففي هذه الحالة لا يتمثل الحل في المزيد من تدخل الدولة، وإنما في إزالة العقبات التي تقف في وجه تطور حقوق الملكية الخاصة، وهذا قد يتطلب إلغاء بعض الإجراءات التدخلية التي أقدمت عليها الدولة سابقا. وتشير نظرية كوز [13] إلى احتمالية التعامل مع بعض الخرجانيات عبر المفاوضات المباشرة بين الأطراف المهتمة. ويجب أن لا نتفاجأ بعدها إذا رأينا تشارلز وولف، الخبير الاقتصادي في مركز (راند كوربوريشين) للأبحاث، وهو يخلص في تحليله الشامل لمعالجة إخفاقات السوق في الأدبيات الاقتصادية إلى القول بأنه “ليس هنالك معادلة لحساب العتبة الضرورية الدنيا لنشاطات الحكومة ومخرجاتها” [14] ، فهذا الاستنتاج المعترف بالجهل يمثل تلخيصا منصفا لموقف الأدبيات الاقتصادية من النطاق الأمثل لنشاط الدولة. العودة إلى المبادئ الأساسية يرى أمارتيا سين [15] بأن الإبهام الشديد الذي يشعر به الخبراء الاقتصاديون إزاء النطاق المرغوب للدولة إنما يقف خلفه سبب أساسي يتمثل في أن “علم الاقتصاد دأب على الميل إلى الابتعاد عن التركيز على قيمة الحريات في ما يخص المنافع والدخل والثروة، وهذه النظرة الضيقة تؤدي إلى الحط من قيمة الدور الكامل الذي تلعبه آلية السوق”. [16] ويعتقد سين، وبشكل مشابه لما يعتقده فريدريك هايك، [17] بأن علم الاقتصاد أفرط كثيرا في الحكم على أفعال الدولة من خلال الاقتصار على منظور العواقب المتوقعة لهذه الأفعال، وذلك على حساب إضعاف الدفاع الفكري عن اعتبار الحريات الفردية الأساسية معيارا لصياغة النطاق المقبول والمرغوب لنشاط الدولة. تُعرَّف الحرية الاقتصادية بأنها “غياب ما تفرضه الحكومة من إجراءات إجبارية وقيود على إنتاج أو توزيع أو استهلاك السلع والخدمات على نحو يتجاوز المدى الضروري لحماية المواطنين والحفاظ على الحرية بذاتها”. [18] والعناصر الجوهرية للحرية الاقتصادية تتمثل في الحقوق المكفولةبملكية الممتلكات المكتسبة على نحو شرعي، وحرية الانخراط في تعاملات طوعية داخل حدود الدولة وخارجها، والحرية من السيطرة الحكومية على شروط التعاملات بين الأفراد، والحرية من المصادرة الحكومية لحقوق الملكية. [19] وهنالك نمطان رئيسيان من قيود الحرية الاقتصادية: الضوابط التقييدية، والضرائب التي تتجاوز الحد الضروري لتمويل نطاق عمل الدولة المطلوب لحماية الحريات الاقتصادية التقليدية (وغيرها من الحريات). [20] لقد أدت التطورات التي حدثت خلال القرن العشرين إلى ضعف خطير في الوضع الفكري والدستوري للحرية الاقتصادية في الغرب، وسأركز في ما يلي على مثالين يشيران إلى ميل أوسع نطاقا، وأولهما ما أورده جون رولز في كتابه (نظرية للعدل) الذي يعجب به الكثيرون ويستشهدون بنصوصه، حيث وردت فيه حجج قوية في تأييد “مبدأ الحرية” باعتباره المعيار الأهم لتشكيل الحياة الاجتماعية ودور الدولة، ولكنه استثنى بعض العناصر الرئيسية للحرية الاقتصادية (كحرية الاستثمار الريادي) من قائمة الحريات التي يجب أن تتمتع بالأولوية، ولذلك يجب أن لا نتفاجأ عندما يخلص رولز إلى الاستنتاج بأن اشتراكية السوق يمكنها أن تكون المنظومة المؤسساتية المثالية، لكن اشتراكية السوق لا يمكن الحفاظ عليها إلا إذا حُرِم الناس من حقوق الملكية الخاصة، مما يؤدي إلى حرمانهم من حرية إنشاء شركاتهم الخاصة. إن الاشتراكية لا تشترط الحظر القانوني للمشروعات غير الخاصة (كالمنظمات غير الربحية والجمعيات التعاونية)، لكن الناس عندما يستطيعون الاختيار بين استثمار مالهم ووقتهم وجهدهم في شركة خاصة وبين استثمارها في جمعية تعاونية فستختار الأغلبية الغالبة الخيار الأول، وهكذا فإن حرية الاختيار تقع في صلب الرأسمالية، وذلك بينما تشترط اشتراكية السوق حظرا للمشروعات الخاصة. [21] فكيف يمكن بعدها لهاتين المنظومتين أن تُعتبَرا منسجمتين على نحو متساو مع مبدأ “أولوية الحرية”؟ وهنالك مثال آخر حول الوضع المضعِف للحرية الاقتصادية في الغرب، وهو يتعلق بالتطورات الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية، هذا البلد الذي يمتلك التقاليد الأقوى للحكومة المحدودة؛ فمنذ الثلاثينيات الماضية دأبت المحكمة العليا على إخضاع الحريات الاقتصادية للحريات الأخرى، وذلك على نحو معاكس للتفسير الأصلي للدستور الأمريكي. [22] فمن خلال إضعاف الإجراءات الدستورية التي تحمي الحرية الاقتصادية تم تمهيد الطريق للتمادي في فرض الضوابط التنظيمية، وقد جرى بعد ذلك بسنين تحليل عواقب هذه الضوابط في الأدبيات الاقتصادية، لكن لم يقم إلا القليل من الاقتصاديين بالربط بين التمادي في فرض الضوابط وبين ما حدث في السابق من إضعاف للدفاعات الدستورية التي تحمي الحرية الاقتصادية، [23] حتى أن جورج ستيغلر في مقالته الرائعة (نظرية الضوابط الاقتصادية) لم يشر إلى وجود مثل هذه الصلة. ويشير هذان المثالان إلىأن المفهوم الفلسفي لمبدأ “أولوية الحرية” يمثل دفاعا فكريا ضعيفا جدا ضد الدولة الموسعة، فإذا جرى استبعاد الحرية الاقتصادية من قائمة الحريات، أو إذا تعرضت للتدني إلى مرتبة ثانوية، فإن الباب المفضي إلى المزيد من الضوابط الاقتصادية سيكون حينها مفتوحا على مصراعيه. ويزداد الطين بلة إذا جرت إعادة تشكيل جذرية لمفهوم الحقوق الفردية ليشمل الحقوق “الاجتماعية” أو حقوق “الرعاية الاجتماعية”، فعندها يحصل دمج بين المفهوم التقليدي للحرية كنطاق محمي من الانتهاكات الناتجة عن أفعال الآخرين وبين مفهوم استحقاق الحصول على أموال الآخرين مفروضا من قبل الدولة من خلال زيادة الضرائب. [24] وتكون النتيجة نزاعا بين هذين النوعين المختلفين جدا من الحقوق، كما يبرز خطر تعرض الحرية الاقتصادية إلى المزيد من الإضعاف بسبب تنامي الضرائب كنتيجة للتوسع في المعونات المالية الاجتماعية. إن أفضل إجراء لكبح جماح الدولة يتمثل في إسناد الحريات الأساسية على أساس دستور نافذ، [25] وهو الطرح الأساسي الذي تحاجج به مدرسة علم الاقتصاد الدستوري، [26] فالتخلي عن هذا الإطار أو إضعافه سيفهمه على نحو سلبي كل من يعتقد بأن الحرية، بما فيها: الحرية الاقتصادية، تمتلك قيمة جوهرية، وهذا هو السبب الذي يبرر وضع حد لنطاق نشاط الدولة بغض النظر عن العواقب المترتبة. لكن هنالك من يرى بأن هذه العواقب هي التي تشكل المعيار الرئيسي أو النهائي للحكم على المنظومات المؤسساتية البديلة، بما فيها: الأنظمة الدولتية البديلة. [27] كما إن هنالك أيضا من لا يهتم بالقيمة الجوهرية (ولا بالقيمة الوسائلية) للحرية الاقتصادية الفردية، وإنما يعتبرون سلطة الدولة (أو الشعب) ذات قيمة جوهرية (أو بأن السوق الحر ذو قيمة سلبية) بغض النظر عن العواقب المترتبة. [28] الدولة المحدودة والدولة الموسعة وعواقبهما هل توجد علاقة تبادلية بين الحرية الاقتصادية وبعض المتغيرات كالنمو الاقتصادي، والانخفاض النسبي لمستوى الفقر، ومدى بعض الظاهرات من أمثال ذلك الجزء من الأفعال الذي يدخل في نطاق الجرائم أو الفساد؟ هل نحتاج إلى قيود تفرضها الدولة على الحرية الاقتصادية من أجل الحصول على المزيد من الأشياء الجيدة وعلى القليل من الأشياء السيئة؟ دعونا نرسم حدا عند نموذج تكون فيه الدولة محدودة فلا تركز إلا على حماية الحريات الأساسية، بما فيها: الحريات الاقتصادية؛ فإذا كانت هذه الدولة ديمقراطية فإن عمل قاعدة حكم الأكثرية سيتقيد بهذه الحريات، وذلك مع الافتراض المسبق بوجود هذه الحريات في دستور نافذ. إن الشرط التعريفي الذي يجعل الدولة تركز على حماية الحريات الأساسية يعني ضمنا بأنها غير قادرة على التوسع بأشكال واتجاهات تؤدي إلىتقييد هذه الحريات، مما يوجب الحد من نطاق عملها. [29] لكن الدولة المحدودة فعالة في وظيفتها الدستورية المتمثلة في حماية الحريات الأساسية للأفراد ضد الانتهاكات الصادرة من أي طرف ثالث. وهنالك الكثير من النماذج الممكنة للدولة التي تتفاوت كثيرا أو قليلا في بعدها الجذري عن النموذج السابق، وسأركز في هذه الدراسة على ثلاثة فئات تصنيفية واسعة النطاق: 1.الدولة الموسعة شبه الليبرالية. 2.الدولة الموسعة اللاليبرالية. 3.الدولة الموسعة المضادة لليبرالية (الشيوعية). ففي الحالة الأولى يتكون التوسع من تركيبات متنوعة من الضوابط التنظيمية وإجراءات إعادة التوزيع، مما يعني ضمنا: بعض الضياع للحرية الاقتصادية، لكن دون القضاء عليها، وهذا هو السبب الذي يجعلني أدعو هذا النموذج بأنه (شبه ليبرالي)، فالحرية الاقتصادية المقيدة تتمتع بقدر جيد ومعقول من الحماية التي تقدمها المنظومة القضائية. أما في الدولة الموسعة اللاليبرالية فإن الحرية الاقتصادية مقيدة أكثر بالضوابط التنظيمية عند مقارنتها بالحالة السابقة، لكن دون إصدار حظر للاستثمارات الريادية الخاصة، وفي المقابل تتصف المعونات المالية الاجتماعية في هذا النظام بأنها أقل، كما إن مستوى حماية الدولة لما تبقى من أوجه الحرية الاقتصادية يتصف بأنه أدنى مما عليه الحالة في الدول شبه الليبرالية. وفي الحالة الأخيرة تقوم الدولة الشيوعية بحظر الاستثمار الريادي الخاص، ويتصف هذا الحظر بأنه ذو فعالية تنشأ بشكل عام من قساوة الدولة في فرضه. إن الحظر الفعال للاستثمارات الخاصة يخلق فراغا لا بد من ملئه بواسطة اقتصاد الدولة القيادي، ولهذا يجب على الدولة الشيوعية المضادة لليبرالية أن تتوسع على نحو هائل، وهذا التوسع يعود إلى ضرورات وظائفية؛ [30] لكنها، وعلى النقيض من ذلك، لا تحتاج إلىإدراج منظومة خاصة لتقديم معونات مالية اجتماعية كبيرة، بل إن هذه المعونات تكون محدودة جدا في النسخة الماوية لهذه الدولة. ولننتقل بعد ذلك إلى استخدام التصنيفات السابقة للخروج ببعض الملاحظات حول تأثير القيود المتنوعة للحرية الاقتصادية على النمو الاقتصادي بعيد المدى وما يتصل به من القضاء على الفقر. ولا يوجد في عصرنا الحالي سوى القليل من أمثلة الدولة المحدودة (يمكن اعتبار هونغ كونغ بمثابة المثال الأقرب تجريبيا حتى الآن)، والدليل التاريخي يشير بقوة إلىأن الأنظمة الليبرالية التي تتبع اقتصاد السوق، والتي يقوم القانون بضمان محدودية نطاق الحكومة فيها، تطرح أمامنا تجربة جيدة جدا في تحقيق النمو الاقتصادي. [31] إن الاقتصادات المتقدمة تندرج جميعها ضمن فئة (الدول الموسعة شبه الليبرالية)، لكنها تظهر تركيبات متنوعة من الضوابط التنظيمية وإجراءات إعادة التوزيع، كما إنها تختلف أيضا في كثافة الظاهرات السلبية المتنوعة، ولنأخذ على سبيل المثال قضية البطالة طويلة الأمد ولنسأل السؤال الرئيسي: هل يمكن لهذه البطالة أن يكون لها صلة بعمل السوق؟ أو: هل لهذه البطالة صلة بالتدخلات العمومية المعتادة في نموذج الدولة الموسعة شبه الليبرالية؟ إن الرأي القائل بـ(إخفاق السوق) يحاول أن يفسر البطالة بالاعتماد على الميل المزعوم لأرباب العمل إلى تحديد أجور تعلو على مستوى التصفية السوقية، مما يتسبب بالبطالة. [32] لكن هذه النظرية لا يمكنها أن تفسر سبب تفاوت مستوى البطالة بعيدة المدى بشكل كبير بين دول منظمة التنمية والتعاون الدولي. أما الرأي الثاني فهو يرى بأن هذه البطالة تنتج عن تدخل الدولة (أي: بسبب إخفاق الحكومة)، وهو منظور أكثر إقناعا بكثير، وفي الواقع، هنالك كم كبير من الأدبيات التجريبية التي تشير إلى وجود صلة بين البطالة بعيدة المدى (ومستوى العمالة) وبين بعض الخصائص الجلية للدولة الموسعة كمعونات البطالة السخية، والضرائب العالية (الناتجة عن المعونات الاجتماعية الكبيرة)، وانعدام مرونة الأجور الناتج عن بنى المساومة الجماعية التي تنشأ بدعم من الدولة، والقيود القانونية التي تعيق دخول الشركات الجديدة وعمل آليات أسواق العمل والإسكان والمنتجات. [33] إن من يعانون من البطالة بعيدة المدى يندرجون في فئة (الأشخاص الأكثر تضررا الذين يجب أن تولى الأهمية لمصالحهم)، [34] ولكن من المفارقة أن البطالة تتفاقم بسبب التدخلات المعتادة في نمط دولة الرعاية الاجتماعية الموسعة شبه الليبرالية، وأنا لا أعني بقولي هذا أنأي نوع محتمل من هذا النمط سينتج بالضرورة بطالة بعيدة المدى، إذ لا يمكن أبدا الزعم بذلك بسبب ما يبديه الأداء الحالي لبريطانيا والولايات المتحدة والدنمارك وإيرلندا، لكن يمكن القول بأن تجاوز نطاق محدودية الدولة (أي: إضعاف أو إلغاء الآليات التي تقيد توسع الدولة) سيهدد بخطر القيام بتدخلات ذات تأثيرات متنوعة غيرمرغوبة، [35] وذلك دون التمكن من إنجاز غاياتها المعلنة. [36] إن معظم البلدان النامية ذات أنظمة شبه ليبرالية أو لاليبرالية، وهي تختلف في ما بينها على نحو واسع في مدى الحرية الاقتصادية ومستوى حماية الدولة لهذه الحرية. ولم ينته حتى الآن الجدل الدائر حول أسباب الاختلافات في أداء النمو، لكنني أعتقد بأن هنالك القليل من الشك حول ما إذا كان النطاق الأوسع للحرية الاقتصادية المحمية جيدا يعتبر من الأمور الجيدة للنمو، وأن القيود التي تفرضها الدولة على هذه الحرية تنتج عواقب مدمرة. [37] وفي العالم النامي لا توجد مبادلة بين الحرية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية، فالتضحية بالحرية تعني التضحية بالرعاية الاجتماعية؛ ويمكننا الخروج بالاستنتاج نفسه من تجربة الاقتصادات الانتقالية. [38] لقد تمكنت مجموعة صغيرة من الاقتصادات النامية في شرق آسيا أن تنجز نمو اقتصاديا سريعا واستثنائيا وأن تقدم مادة لاختبار للفرضيات المتنوعة المتعلقة بالدور النسبي للدولة والسوق. فهل يمكن لهذه المعجزات الاقتصادية أن تُفَسَّر من خلال بعض التدخلات الخاصة التي تقوم بها الدولة اللاليبرالية (كالإقراض الموجه وحركة التصنيع التي تقودها الدولة)؟ إن هذه الرؤية وأمثالها يمكن دحضها بسهولة، فالأنظمة “الإعجازية” كانت تختلف في ما بينها بمدى أمثال هذه التدخلات، لكنها كانت تتشابه في أمر مشترك، وهو: التراكم غير الطبيعي للعناصر الجوهرية التي تعتبر من الخصائص النمطية للدولة المحدودة، وهي: الاقتصاد المفتوح نسبيا، والضرائب المنخفضة، والاستثمار الريادي الخاص. [39] إن الرؤية الماركسية التي تعتقد بأن الملكية الخاصة والأسواق الحرة تشكل عقبات في طريق التنمية الاقتصادية إنما هي رؤية دأبت التجربة الواقعية على دحضها مرارا وتكرارا، فليس هنالك حالة واحدة تشير إلى نجاح أي اقتصاد غير سوقي تهيمن عليه الدولة، فقد أدت أكبر حالات التضحية بالحرية إلى تضحية كبيرة بالرعاية الاجتماعية، وليس أمام المرء إلاأن يتعجب كيف أمكن لعدد كبير جدا من الاقتصاديين أن يدعموا زعما يقول بالحيوية الاقتصادية للاشتراكية، بل حتى الادعاء بسيادتها، وأن لا يهتموا بالتحذيرات التي أطلقها ميزس وهايك. [40] ولقد ركزت، في ما سبق، على الصلات التي تربط بين قيود الحرية الاقتصادية وبعض جوانب الأداء الاقتصادي، لكن هنالك متغيرات مهمة أخرى تساهم في التأثير، كمستوى الجريمة والفساد والتهرب الضريبي، ويضاف إليها حجم اقتصاد الظل أيضا، فكيف تتعلق هذه المتغيرات بنمط الدولة؟ لنعد هنا إلى فكرة الجرائم الكبرى، وهي صنف من الأفعال يعلنه من الجرائم أي مجتمع حديث (كالقتل والاعتداء والسرقة والاغتصاب)، إذ يبدو بأن توسع الدولة يؤدي إلى خلق قائمة من الجرائم الصغرى، [41] فالقيود التي تحظر التزويد بسلعة يكثر الطلب عليها لا يؤدي إلى إنتاج جرائم ثانوية وحسب، وإنما يشكل حافزا لاقتراف جرائم أولية أيضا (كما يحدث حين يقوم أفراد العصابات بعضهم بقتل بعضهم أو بقتل أفراد الشرطة)، ويمكننا أن نستعين هنا بما حدث في حقبة (الحظر) التي شهدتها الولايات المتحدة في العشرينيات الماضية كحالة مميزة في صلب الموضوع. كما إن زيادة المعونات الاجتماعية، وهي السبب الرئيسي لانفجار الإنفاق العمومي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أدت إلى زيادة الضرائب، فتوسّع نطاق الجرائم المرتبطة بالضرائب ونشأ اقتصاد ظل. وقد مثلت الشيوعية حالة متطرفة من حالات تجريم النشاط البشري، فأي نشاط استثماري خاص كان يعلن من الجرائم الكبرى، كما كان التجريم يشمل النشاط السياسي المستقل أيضا. [42] وتبين لنا الحالة الشيوعية، وبطريقة دراماتيكية، بأن فرض القانون ليس قيمة في ذاته، وإنما يكمن السؤال في الخيار بين فرض (حماية) الحريات الأساسية وفرض القيود على هذه الحريات؟ وبالإضافة إلى المسألة الأخلاقية المتعلقة بمحتوى القانون وقيمة فرضه، هنالك أيضا مشكلة أخرى تتمثل في أن المنظومة القضائية المثقلة بالكثير من الأعباء، والتي تفرض قيودا متعددة على الحرية الاقتصادية، ستكون عاجزة عن الوقاية من أي تآكل إضافي في الحريات الاقتصادية. أما الدولة المحدودة فهي لا تكتفي بمنح الأفراد أوسع نطاق ممكن للحرية الاقتصادية وحسب، وإنما تستطيع أيضا أن تقدم حماية أفضل لهذه الحرية بالمقارنة مع ما يحدث في ظل الدولة المثقلة بالكثير من الضوابط التنظيمية. لننتقل بعد ذلك إلى الفساد، فهنالك الكثير جدا من الأبحاث التجريبية التي تشير إلى وجود صلة بين مدى الفساد وبين تركيبات متنوعة من العوامل التي تعتبر من الخصائص المميزة لبعض أنماط الدولة الموسّعة على الأقل، كالضوابط التقييدية وما يتصل بها من سلطة اجتهادية للسياسيين والموظفين الحكوميين، وأعباء الضرائب الاسمية العالية، والنطاق الكبير للمشتريات العمومية. [43] وربما يكمن العامل الأهم في مدى الضوابط التقييدية والقرارات الإدارية، والتي قد تكون ناتجة عن سياسيين شعبويين (أو فاسدين) وترتبط بعلاقة مع السلطة الاجتهادية الواسعة التي تتمتع بها الإدارة العمومية. فما يؤدي خصوصا إلى تقييد الحرية الاقتصادية، مما يعود بالأذى على النمو تاليا، هو في الوقت نفسه من الأمور التي تساعد كثيرا على الفساد. [44] والعلاقة بين الضرائب والفساد أكثر تعقيدا، فأعباء الضرائب الاسمية والفعلية الكبيرة ربما تتعايش مع مستوى منخفض نسبيا من الفساد إذا كان العبء التنظيمي خفيفا والاجتهاد البيروقراطي محدودا، وهذه العلاقة تتجلى بأوضح صورها في البلدان الإسكندنافية، لكن زيادة الضرائب انطلاقا من مستويات مرتفعة فعليا ربما يؤدي في المدى البعيد إلى نشوء خطر التواطؤ الفاسد بين بعض مسؤولي الضرائب وبعض دافعي الضرائب. ويضاف إلى ذلك أن الضرائب الاسمية المرتفعة تميل إلى التسبب بالكثير من التهرب الضريبي الذي ينشأ، جزئيا، من النشاط غير المسجل لاقتصاد الظل. [45] وأخيرا فإن المعونات الاجتماعية الضخمة، والتي تقف خلف العبء الضريبي الكبير، تميل إلىأن تنتج، لوحدها أو بالاشتراك مع هذا العبء، تطورات متنوعة غير مرغوبة كانخفاض المعروض من العمل، وانخفاض الادخار الشخصي، وإساءة استخدام الأموال العمومية من قبل المنتفعين منها، وظهور ثقافة اتكالية. [46] وبينما قد تترافق الضرائب الاسمية والفعلية المرتفعة مع مستوى منخفض نسبيا من الفساد، فإن العبء الضريبي الفعلي الذي يقل كثيرا عن العبء الضريبي الاسمي يرتبط بعلاقة قوية مع ضخامة حجم الفساد، والسبب في ذلك بسيط: فالضرائب الفعلية منخفضة لأن مدفوعات الرشى التي يستلمها المسؤولون الحكوميون في إدارة الضرائب (وربما يستلمها رعاتهم أيضا) تحل محل المدفوعات الضريبية جزئيا. ويضاف إلى ذلك أن المسؤولين الرسميين “المخولين” بالضوابط التنظيمية يطالبون برشى أخرى، وهكذا فإن الدولة المفرطة في الضوابط التنظيمية والسلطة الاجتهادية تميل إلى إنتاج كل من: عبء ضريبي فعلي منخفض، ومبالغ رشى كبيرة. [47] وهذا هو السبب الذي يلغي ضرورة وجود ارتباط وثيق بين الضرائب الفعلية المنخفضة والنمو الاقتصادي السريع، فما يهم النمو هاهنا ليس العبء الضريبي الفعلي لوحده، وإنما مجموع ما يجري دفعه فعليا من الضرائب والرشى. وهذا المجموع يتكون من تركيبة تختلف اختلافا حادا باختلاف الأنظمة الدولتية المتنوعة وربما يمكن الاستفادة منه كأحد المؤشرات التي تبين طبيعتها. سألخص ما احتواه هذا القسم في النقاط التالية: • القيود المفروضة على الحرية الاقتصادية الفردية يصعب تبريرها بحجة تحسن الأداء الاقتصادي، وإنما يبدو الأمر على العكس من ذلك: فكلما كان هذا التوسع جذريا أكثر تعاظم معه الضرر الاقتصادي الناجم. إن التضحيات الكبيرة بالحرية الاقتصادية تؤدي إلى خسارة كبيرة في الرفاهية، ويصح هذا الأمر بلا ريب في الدول الشيوعية، كما إنه ينطبق أيضا على الأنظمة اللاليبرالية التي تحكم الكثير من الدول النامية، ومن المميزات الرئيسية لهذه الأنظمة: الضوابط التنظيمية المفرطة ذات الطبيعة الافتراسية. [48] والسؤال الصائب الذي يجب أن يسأل هاهنا: كيف يمكن إعادة هيكلة هذه الدول على نحو تتوقف فيه عن إنتاج الفقر واللامساوة والفساد. وحتى في حالة المنظومات شبه الليبرالية، كما هو الحال في النمط الغربي، فإن البطالة طويلةالأمد، وهي مرض اجتماعي خطير، يرتبط بعلاقة مع إجراءات تدخلية متنوعة تقوم بها الدولة. • يمكن الربط أيضا بين أشكال متنوعة لتوسع الدولة وبين تضخم الحصة التي يعلن تجريمها من بين الأفعال الفردية، والفساد، والتهرب الضريبي، وظهور اقتصاد الظل. • إن الضوابط التقييدية ربما تكون أكثر ضررا من إعادة التوزيع، ولا بد أن تتمخض الضوابط الهائلة عن شلل اقتصادي وفساد واسع، كما قد تتسبب أيضا بإضعاف حماية الدولة للحريات الاقتصادية التي لا تزال موجودة. وإذا ما نحّينا المسألة الأخلاقية جانبا، فيمكن القول بأن الحد العقلاني لإعادة التوزيع يتحدد عبر متطلبات المتانة المالية وبإدراك أنالمعونات التي تقدمها الحكومة ربما تؤدي إلى إنقاص المعروض من العمالة. والعنصر الأخير يعني ضمنا، على سبيل المثال، بأن من الأفضل إنفاق مبلغ معين من المال على التعليم الابتدائي عوضا عن إنفاقه على تمويل معونات البطالة. • الكثير من حالات الانحراف عن نموذج الدولة المحدودة تؤدي إلى زيادة عدد المحرومين لأن الإفراط في الفعل الحكومي ينتج الفساد والبطالة طويلة الأمد. ومن يعتقد بمبدأ رولز (إعطاء الأولوية لمصالح هذه الفئة) يجب أن يكون قد سئم مما تفرزه الدولة الموسعة. هل يملأ (توسع الدولة) فراغا موجودا أم أنه يزاحم النشاط اللادولتي؟ إن النقاط المصيرية المتعلقة بتوسع نشاط الدولة يمكنها أن تواجه اعتراضين متصلين في ما بينهما: • الاعتراض الأول: جاء التوسع كاستجابة لحاجة، ولهذا يمكن تبريره على نحو ما. وعلى سبيل المثال: يزعم ريتشارد موسغريف بأن “تدهور الروابط الأسرية، وتقلبات الدورة الاقتصادية والسوق المتغير” خلقت “حاجة متنامية لمؤسسات جديدة من أجل توفير الدعم”، وهكذا فإن “صعود القطاع العمومي كان بمثابة استجابة أكثر من كونه عاملا مولدا”. [49] • الاعتراض الثاني: غياب تدخل الدولة من شأنه أن يترك فراغا؛ فهنالك حاجات بعينها يجب تلبيتها، وسيكون الناس أسوأ حالا. إن الاعتراض الأول يتعلق بأسباب توسع الدولة، والثاني يتعلق بتأثيراتها؛ وتكمن مشكلة الاعتراض الأول في أنه حتى عندما نأخذ بالحسبان مفهوما مطاطيا كمفهوم “الحاجة” فمن العبث أن نستعين به لتفسير أشكال أكثر تدميرا من الدولة الموسعة، كما في الشيوعية أو ديكتاتورية موبوتو سيسي سيكو؛ ومع ذلك فإن اللجوء إلى نظرية الحاجة من أجل تفسير توسع الدولة ينطوي على إشكالية أخرى في ما يتعلق بالانتقال من الأنظمة المحدودة إلى الأنظمة شبه الليبرالية، فأي الفئات هي التي يفترض بأن حاجاتها يجب أن تكون القوة الدافعة وكيف يمكننا أن نقيس حجم هذه الفئات؟ وكيف يمكننا أن نربط بين النمو غير المتكافئ للضوابط التنظيمية وبين المعونات الاجتماعية للمحتاجين؟ فمن المثير للصدمة أن نجد بأن المعونات الاجتماعية في الدول المتقدمة لم تنمُ بشكل تدريجي وإنما تزايدت بشكل انفجاري خلال مدد زمنية قصيرة ومحددة. [50] ومن الملاحظ أن هنالك آليات صدمة مماثلة تميز أنماطا بعينها من الضوابط التنظيمية، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالمنظومة المالية. [51] إن الشكوك تلف أي محاولة لاستخدام أي مفهوم معقول للحاجة في تفسير مثل هذا المفهوم عن نمو المعونات الاجتماعية والضوابط التنظيمية. إن استخدام نظرية (الحاجة) في تفسير توسع الدولة تمثل محاولة غير مقنعة لتفسير هذه الحقيقة من خلال اللجوء إلى مفاهيم مزيفة تزعم اتصالها بالسوق وعلم النفس، وأسوأ ما فيها أنها تؤطر تبريرا للدولة الموسعة. أما الاعتراض الثاني الذي يرى بأن غياب الدولة سيخلق “فراغا” يجعل الناس أسوأ حالا فهو أحد تمظهرات مقاربة اقتصاديات الرعاية الاجتماعية لمسألة النطاق الأمثل لنشاط الدولة. ولقد قمت في ما سبق بمناقشة مشكلات التطبيقات العملية للمفاهيم النظرية للسلع العمومية وللخرجانيات، وسأضيف في ما يلي نقطتين أخريين: 1.إن النشاط اللادولتي لا يمكن تقليصه إلى تعاملات سوقية موجهة بتأثير الربح، فهذا النشاط يتضمن أيضا ترتيبات متنوعة للعون الذاتي أو العون المتبادل، وكلا هذين الأمرين، أي: التعاملات السوقية الموجهة بتأثير الربح وترتيبات العون المتبادل، يتضمنان التعاون الطوعي؛ ولذلك فإنه حتى لو كان بإمكان المرء أن يبين بأن السوق لا يمكنه أداء وظيفة نافعة بعينها فإن ذلك لا ينقلنا بالضرورة إلى القول بأن الدولة يجب عليها أن تؤدي هذه الوظيفة. 2.إن توسع الدولة يقيد نطاق التجريب المؤسساتي؛ [52] فالاقتصاديون متفقون على أن توسع الدولة ينتج تأثيرات تزاحمية ضارة في حالات أقل تدميرا، ناهيك عن حالات الأنظمة المضادة لليبرالية أو اللاليبرالية. ولنأخذ على سبيل المثال: ضوابط الأسعار التي تؤدي إلى أزمات الشح وإلى تحصيص السلع، فهي من التدخلات العمومية الرئيسية؛أما إذا كان معدل العائد الناتج أقل من العتبة التي يتوقعها مستثمرو القطاع الخاص فإن الاستثمار العمومي سيملأ الفراغ، وهذا من التدخلات الثانوية؛ لكن هذا الفراغ لا يسبق التدخل العمومي، وإنما ينشأ على يديه، والقطاع الإسكاني مثال نمطي لذلك، حيث تؤدي ضوابط التأجير إلى نشوء الإسكان “الاجتماعي”. ويمكننا أن نرسم مخططا عاما لنموذج بسيط من نشاط الدولة المتوسعة ذاتيا، حيث يبدأ الأمر بتدخل رئيسي ينتج من التفاعلات المتبادلة بين الضغوطات السياسية المتعلقة بالأيديولوجيات الدولانية وجماعات المصالح، وما أن يطبق هذا التدخل حتى يؤدي غالبا إلى تدخلات ثانوية بسبب الضرورات الوظيفية، أي: الضغوطات الفاعلة بغض النظر عن النوايا السابقة لصناع القرار، وعلى سبيل المثال: إذا أدى التدخل الرئيسي إلى إلغاء ربحية استثمار القطاع الخاص في مجال الإسكان مع استمرار الحاجة إلى المزيد من المساكن فستكون هنالك حاجة لاستثمار القطاع العمومي في هذا المجال. إن هذا المخطط البسيط ربما يساعد في تفسير ما يتعرض له نشاط القطاع الخاص من مزاحمة في المجالات التي تقوم فيها الاقتصاديات التقليدية باعتبار وجود الدولة أمرا مفروغا منه بسبب “عيوب السوق”. ولنأخذ (التعليم) هنا مثالا: فقبل تقديم التعليم المدرسي “المجاني” والإجباري في المدارس العمومية كانت إنكلترا وويلز والولايات المتحدة الأمريكية تمتلك شبكات واسعة من المدارس الابتدائية المعتمدة على دفع الأجور، حيث تتلقى التمويل من الكنائس ومن أهالي التلاميذ المنخرطين في الأعمال المتنوعة. وكانت نسبة الدخل الوطني الصافي الذي ينفق على اليوم التعليمي الواحد لكل الأعمار في إنكلترا في العام 1833 يبلغ حوالي (1%)، وفي العام 1920 أصبح التعليم “مجانيا” وإجباريا فهبطت النسبة إلى (0.7%). [53] لقد استحوذت المدارس العمومية “المجانية” (المجانية هنا تعني بأنها ممولة ضريبيا) على الطلب في مجال التعليم، ونتيجة لذلك أدى “الاستحواذ” على الطلب إلى إيقاف التطورات التعليمية الابتكارية اللادولتية، ويشدد إدوين ويست على أنه “باستثناء ماركس وإنغلز فإن الخبراء الاقتصاديين الذين ظهروا حتى منتصف القرن التاسع عشر كانوا يؤيدون تقديم التعليم في سوق خاص وحر”، وذلك لأنهم كانوا يعتبرون دفع أجور التعليم “الأداة التي جعلت من الممكن الإبقاء على التنافس المرغوب بين المعلمين والمدارس”. [54] كما كان جون ستيوارت ميل يدعو إلى الاختبارات الإجبارية لكنه لم يكن يؤيد التعليم الإجباري. وربما يجدر بنا أن نناقش عوضا عن ذلك: الأخطار التي تنال الفرد بتأثيرها كالبطالة؛ فهذه الأحداث يجري طرحها غالبا كمبرر للتأمين “الاجتماعي” الذي تموله الدولة، ويتقوى هذا الادعاء في العادة بالاستناد إلى فكرة (عيوب السوق الرأسمالي)، لكن الخطوة الأولية تتمثل في تقليص كل الأخطار الفردية الهائلة التي لا تنتجها الطبيعة، أما الأخطار التي نناقشها فهي ناتجة عن سياسات الدول الموسعة التي تتمخض عن أزمات نقدية أو مالية وتضخم هائل وبطالة هائلة، وإن الوقاية من هذه السياسات، عبر الانتقال من الدولة الموسعة إلى الدولة المحدودة، هو أفضل تأمين اجتماعي، بل إنه إجراء لا يمكن الاستغناء عنه في الأصل. [55] وفضلا عما سبق، فإن أمثال هذا الإجراء الإصلاحي من شأنها أن تسرّع نمو دخل الأفراد ومدخراتهم، مما يؤدي بالتالي إلى تحسين قدرة الناس على التعامل مع الأخطار المتنوعة. كما إن الدراسات التجريبية تبين لنا بأن البلدان الفقيرة يوجد فيها مجموعة متنوعة من “استراتيجيات التعامل” اللارسمية (كتبادل الهدايا والقروض، والحوالات المالية التي يرسلها أفراد الأسرة المهاجرون)، وإمكانية كبيرة مثيرة للدهشة لإجراء ترتيبات مؤسساتية لادولتية أكثر حداثة تقوم بتعزيز الادخار وتقدم التأمين والقروض الصغيرة. [56] ولقد دأبت جمعيات التأمين الطوعية على مواصلة انتشارها في البلدان الغربية حتى جرى طرح التأمين الاجتماعي الإجباري، وعلى سبيل المثال: بلغ عدد أعضاء الجمعيات الودية (الخيرية) في بريطانيا (2.8 مليون) في العام 1877، و(4.8 مليون) في العام 1897، و(6.6 مليون) في العام 1910 (غرين 1985). ويشدد البعض على أن “البرامج التي يجري تشغيلها من قبل الحكومات بشكل مباشر تميل إلى المعاناة من صعوبات جوهرية في عملية توليد الامتثال من قبل المشتركين فيها”، وهو أمر “تبين بأن له أثر مدمر على الاستدامة طويلة الأمد لبرامج الإقراض العمومية”. [57] إن توسع التأمين الاجتماعي الذي تموله الدولة قد يؤدي إلى مزاحمة الترتيبات التقليدية ويقف حائلا دون تطور ترتيبات أكثر حداثة، وهذا الخطر يمكن ملاحظته بوضوح في التقرير الأخير للبنك الدولي، حيث جاء فيه: “إن تنافس الحكومة في مجال تقديم المعونات الاجتماعية ربما يؤدي إلى استبعاد الترتيبات المؤسساتية الخاصة” و”إن هذه المعونات الاجتماعية يمكن توجيهها نحو الفقراء بشكل أكثر فعالية بالمقارنة مع المعونة الاجتماعية (العمومية) التي يسهل الحصول عليها أكثر”، [58] وهذا هو ما حدث فعلا في الغرب بسبب صعود دولة الرعاية الاجتماعية. إن المعونات الاجتماعية التي تفرضها الدولة قد يستحوذ على جزء منها أشخاص أفضل حالا من الفقراء، وربما تزاحم الترتيبات الطوعية التي تنفع الفقراء، ونتيجة لذلك فمن الممكن أن تتسبب مخططات المعونات الاجتماعية التي تديرها الدولة في البلدان الفقيرة بتفاقم البؤس الذي يعانيه الفقراء؛ ففي هذا الوضع تقوم دولة الرعاية الاجتماعية بإنهاء مجتمع الرعاية الاجتماعية. ويجب علينا أن لا ننسى هنا بأن زيادة الضرائب الممولة للإنفاق الاجتماعي من المرجح لها أن تتسبب بإعاقة النمو الاقتصادي وما يتصل به من عملية خلق فرص العمل. [59] وأخيرا يجب أن نذكر بأن نمو الضوابط التنظيمية المالية يبين لنا بوضوح كيف أن بعض التدخلات الأولية تؤدي إلى تدخلات ثانوية، مما يؤدي إلى توليد جرعة كبيرة من الضوابط التنظيمية الدولتية، وهي ضوابط يبقى الجدل مفتوحا حول أمثليتها. إن دور التدخل الأولي ربما يمكن عزوه إلى(تأمين الودائع) السخي الذي أدى إلى غياب الكثير من أوجه انتظام السوق (أي: الحافز الذي يدفع المودعين إلى مراقبة المصارف في ما يتعلق بمستوى رأس المال والمطالبة بكشف كامل لوضعها المالي). ولقد أدت الفجوة الناتجة إلى توليد موجة من الضوابط التنظيمية الثانوية (كنسب الحاجة من رأس المال الحساسة للمخاطر، وقيود الحقائب الاستثمارية في المصارف، واستخدام الدين الثانوي كأداة للمراقبة)، [60] وهذه الضوابط التحوطية ما هي، في المبدأ، إلا استجابة عقلانية لوضع خلقه إجراء تدخلي أولي قامت به الدولة. النتيجة إن علم الاقتصاد لا يقدم جوابا واضحا للسؤال حول ما يجب للدولة أن تفعله، والسبب التقريبي لهذا يكمن في صعوبة تطبيق مبادئها النظرية الأساسية، أي: ما يخص السلع العمومية والخرجانيات، على العالم الخارجي. وهنالك سبب أعمق يتمثل في إهمال الحريات الاقتصادية الأساسية كإطار يرسم حدود نشاط الدولة؛ وحتى في البلدان الغربية فإن الوضع الفكري والدستوري للحرية الاقتصادية تعرض إلى تدهور خطير خلال القرن العشرين، مما مهد الطريق للدولة الموسعة. ومن الصعب استخدام حجة تحسن الأداء الاقتصادي لتبرير توسع نشاط الدولة (أي: نمو ما تفرضه من قيود على الحرية الاقتصادية)، إذ يبدو بأن العكس هو الصحيح: فكلما كان التوسع أكثر راديكالية كلما تعاظم الضرر الاقتصادي الناجم. ويمكننا أيضا أن نجد صلات بين الأشكال المتنوعة لتوسع الدولة وبين الفساد، والتهرب الضريبي، واقتصاد الظل، وإضعاف حماية الدولة لما يتبقى من الحرية الاقتصادية. والكثير من حالات الانحراف عن الدولة المحدودة تميل إلى زيادة نسب الفئات الأكثر حرمانا، كالذين يعانون من البطالة طويلة الأمد. ويجب أن يكون من المسلَّم به أن الدولة إذا بقيت محدودة (أي: إذا بقيت تركز على حماية الحريات الأساسية) فإن بعض الخدمات لن يجري توفيرها وسيكون الناس أسوأ حالا. لكن إمكانية التعاون الطوعي، والذي يتضمن كلا من التعاملات السوقية ذات التوجه الربحي وترتيبات العون المتبادل، يجب أن لا يجري التقليل من شأنها. كما إن هنالك الكثير من الاستراتيجيات الفردية المتنوعة للتأقلم مع الأوضاع الناتجة، وفي الحقيقة فإن توسع الدولة ربما أدى إلى استبعاد الكثير من النشاط اللادولتي ووقف حائلا دون تطور ترتيبات في القطاع الخاص ذات إمكانيات نافعة، ولذلك نجد في أيدينا اليوم حججا تكفي للدفاع بقوة عن القول بأن الدولة المحدودة هي الدولة المثلى. لقد شهدت الأعوام العشرون الماضية ميلا للابتعاد عن الدولة الموسعة نحو الدولة المحدودة، مما يبين بأن مهمة الحد من نطاق النشاط الحكومي، وبالتالي: إطلاق القدرات الكامنة للتعاون الطوعي والمبادرات الفردية، أمر غير مستحيل حتى وإن كانت التعاملات أبعد ما تكون عن الكمال ومليئة بالمشكلات. وسيكون هنالك دائما من يجد المنفعة (السلطة والعائد الاقتصادي) في الحد من حرية الآخرين، وسيكون هنالك دائما أيضا بعض المؤدلجين الذين يلصقون قيمة عاطفية بسلطة الدولة أو لا يشعرون بالثقة إزاء التعاون الطوعي. ويجب على المرء أن يستخدم أي لحظة سانحة لإرساء رؤية عن دولة مقيدة بإطار من الحريات الفردية الأساسية من خلال دستور نافذ، وهنالك حدود أخرى لسلطة الدولة الاجتهادية تشكل دفاعات بديلة عن الحرية الفردية، ويمكن للقيود المالية الممأسسة أن تساعد في الحد من نمو الإنفاق العمومي، مما يمكنها من الحد من نمو الضرائب، كما إن استقلالية المصرف المركزي يمكنها أن تقف حائلا دون اللجوء إلى التمويل التضخمي لعجز الموازنة، مما يؤدي إلى حماية الأفراد ضد فرض ضرائب تضخمية، وإن العضوية في منظمة التجارة العالمية تحد من استعمال البلدان للإجراءات الحمائية وتساعد على حماية دافع الضرائب والمستهلك داخل البلد؛ ولذلك فإن هذه وغيرها من الدفاعات الثانوية يجب أن يجري طرحها، وإذا كانت موجودة فعلا فينبغي تعزيزها وتقويتها. ليشيك بالتسيروفيتش رئيس المصرف الوطني البولندي (2001-2007). نائب رئيس الوزراء ووزير المالية في بولندا (1989-1991، 1997-2000).
