• ديسمبر 24, 2025

المحرّك الوحيد للنمو الحقيقي: تراكم رأس المال لا الاستهلاك

لا يكفّ السياسيون عن الحديث عن “تحفيز الطلب”، ويعلنون خطط إنفاق بمليارات—بل بتريليونات—كما لو أنّ النمو يمكن استدعاؤه إلى الوجود عبر ضخّ الأموال. لكن النمو لا يأتي من الشعارات، ولا الإعانات الحكومية، ولا الأشغال العامة المموّلة بالعجز. إنّه ينبثق من عنصر واحد لا غير: الادخار الحقيقي.

منطق النمو ببساطة

تخيّل الأمر على النحو التالي: عندما يقتطع الناس جزءًا من دخولهم بدل إنفاقه فورًا، فإنهم يحرّرون موارد—من طوب وآلات وفولاذ وعمالة—يمكن توجيهها إلى عمليات إنتاج أطول أمدًا. وهذه العمليات الأطول هي مصدر الثروة الحقيقية. فالمصانع والمناجم وسلاسل الإمداد المتقدمة لا تُخلق من العدم؛ لا بد أن يمتنع شخص ما عن الاستهلاك اليوم حتى يصبح إنتاج الغد أكبر.

وتراكم رأس المال يعني بناء الأدوات والهياكل التي تسمح بتمديد عملية الإنتاج عبر الزمن. فالرجل الذي لا يملك سوى يديه يستطيع إنتاج فقط ما يكفيه ليوم واحد. أمّا إذا ادّخر من غذائه ما يمكّنه من البقاء أثناء صنع محراث، فإن إنتاجه سيرتفع. ومع مزيد من الادخار، يمكنه اقتناء جرّار، ونظم ريّ، وصوامع تخزين، وغيرها. تطول مراحل الإنتاج، لكن العائد النهائي يتضاعف. هذا هو جوهر تراكم رأس المال: تأجيل الاستهلاك اليوم لفتح آفاق إنتاج أعظم غدًا.

لكن لماذا لا تدّخر الدول النامية؟ 

ليست المشكلة بدائية المجتمعات، بل اختناقها. يتجلّى ذلك في كل مكان: شركات تطارد عوائد سريعة بدل مشاريع طويلة الأمد، وأسر تنفق اليوم لأن عملة الغد ستكون أقل قيمة، وآفاق استثمارية تضيق. فتتعطل آلة تكوين رأس المال، فتبدو الصناعة حديثة في مظهرها، لكن ضحلة في واقعها بنموّ سطحي وضعيف. وفيما يلي أسباب العجز عن تراكم رأس المال في هذه البلدان.

أولها انعدام أمن الملكية. فحين يلوح شبح المصادرة بلا تعويض، ينسحب الناس عقلانيًا من الالتزامات الطويلة الأجل. المزارع الذي يفكّر في شراء معدات جديدة لا يستطيع التخطيط لمواسم قادمة إذا كان احتمال انتزاع الأرض قائمًا. وينطبق المنطق ذاته على مالكي المنازل والشركات. فالتحسينات الرأسمالية تتطلب ثقةً بأن عوائد الغد ستؤول إلى من تحمّل تكاليف اليوم. وحين تغيب هذه الثقة، يبدو الادخار تصرّفًا غير عقلاني.

وثانيها الضرائب. تواجه الدول النامية طبقات متعددة من الضرائب: ضريبة الدخل، وضريبة على القيمة المضافة، ورسوم الوقود، والضرائب الانتقائية، وضرائب الملكية، وما يُسمّى “ضرائب السلع الضارّة”. كل واحدة منها تستنزف موارد كان يمكن توجيهها إلى الادخار أو الاستثمار. ثم تُحوَّل هذه الأموال إلى برامج حكومية كثير منها منخفض القيمة، وبعضها ينهار تحت وطأة الفساد وسوء الكفاءة. وفي المقابل، تتقلّص مدّخرات القطاع الخاص. والأثر التراكمي ليس إعادة توزيع لصالح النمو، بل إعادة توزيع على حساب النمو.

وثالثها اللوائح التنظيمية المفرطة. حيث يضطر روّاد الأعمال إلى تخصيص موارد غير متناسبة للامتثال التنظيمي بدل التوسّع. فمتطلبات الترخيص، وقوانين العمل، واللوائح البيئية—كلها تلتهم وقتًا ومالًا. كل دولار يُنفق لعبور هذا المتاهة البيروقراطية هو دولار لا يُنفق على الآلات أو التدريب أو التوسّع. ومع تقلّص هامش إعادة الاستثمار، تضعف حوافز الادخار. وتدخل العملية في حلقة مفرغة: ادخار أقل يعني رأس مال أقل، ورأس مال أقل يعني إنتاجية أدنى، وإنتاجية أدنى تعني نموًا أضعف.

ورابعها التضخم. فهبوط قيمة العملة يؤدي إلى تآكل مستمر لقيمة ما تبقى من المدخرات. يوسّع البنك المركزي المعروض النقدي باسم النمو والاستقرار، لكن الأثر العملي هو معاقبة كل من يحاول حفظ القيمة. تفقد المدّخرات قوتها الشرائية عامًا بعد عام. وفي مثل هذه البيئة، يصبح السلوك العقلاني هو الاستهلاك الفوري أو تراكم الديون، لا تكوين رأس مال صبور طويل الأجل. فالتضخم ينقل الثروة من المدّخرين إلى المدينين، ومن القطاع الخاص إلى الدولة.

الأثر المجمّع

 كل واحدة من هذه العوامل — غموض حقوق الملكية، والضرائب المرتفعة، والتنظيم المفرط، والتضخم — كفيلةٌ بمفردها بتثبيط الادخار. لكن اجتماعها معًا يضمن أن يرى الناس سببًا ضئيلًا للادخار، وسببًا أقل للتخطيط على المدى الطويل. والنتيجة المتوقعة هي هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، وسلوك اقتصادي قصير النفس في الداخل، وتآكلٌ تدريجي الق للقاعدة الإنتاجية. ثم يتساءل السياسيون لماذا يتعثّر النمو. والجواب واضح: النظام يعاقب النشاط نفسه—الادخار—الذي يُعدّ شرطًا مسبقًا لتراكم رأس المال، ومن ثمّ للنمو الحقيقي.

فما الذي يصلح هذا الخلل؟ الجواب ليس خطة حكومية من عشر نقاط، ولا “إطار سياسة صناعية” آخر مآله الغبار على مكتب بيروقراطي. مقاربة المدرسة النمساوية تتجنّب الألعاب النارية ولا تعد بمعجزات فورية. بل تقول ببساطة: احموا الملكية، دعوا الناس يحتفظون بما يكسبون، وتوقفوا عن تقويض الادخار. وما عدا ذلك سيأتي تباعًا.والحل أبسط مما يُتصوَّر: 

  • تأمين حقوق الملكية تأمينًا صارمًا، فبدون ملكية محصّنة بقوة القانون لن يكون هناك استثمار طويل الأجل.
  • خفض الضرائب وترك الأفراد والشركات يحتفظون بعوائدهم، فالدولة تُبدّد المدّخرات بدل مضاعفتها.
  •  إزالة القيود التنظيمية غير الضرورية، فكل قيد زائد هو مكبح لإعادة الاستثمار. 
  • إنهاء التمويل التضخمي عبر كبح التوسّع النقدي، فالنقود السليمة تضمن الحفاظ على قيمة المدخرات.

إذا تحقّق كل هذا، ارتفع الادخار. ومع ارتفاعه، يتراكم رأس المال. ومع تراكمه، تطول عمليات الإنتاج. ومع طولها، ترتفع الإنتاجية، والأجور، ومستويات المعيشة—وهو الطريق الوحيد الآمن إلى النمو.

بقلم دانيال أغباكي، اقتصادي نيجيري متدرّب في معهد ميزس

لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://freemarketfoundation.com/capital-not-consumption-the-only-engine-of-real-sa-growth/

Read Previous

مشكلة في بريطانيا ليست عدم المساواة في الثروة