إن تحديد من سيتولى مقاليد الحكم بطريقة ديمقراطية قد يكون بالفعل أفضل وسيلة لانتقال السلطة دون إراقة دماء. غير أن أهمية الديمقراطية لا تكمن في ذاتها، بل في كونها تخدم الحرية وتحميها. فلو كان ما تقرره الأغلبية في كل وقت هو القانون الأعلى، لما كانت للدستور ولا لـ”وثيقة الحقوق” الأمريكية أي معنى ولما كانا أعلى قانون في البلاد بالفعل، لأنهما وُجدا تحديدًا لوضع حدود على ما يمكن للأغلبية أن تقرره.
لكن الواقع أن الديمقراطية لا تضمن الحرية بالضرورة. فهي قد تتوافق تمامًا مع قرارات وسياسات تهدم الحرية، رغم أن الأمريكيين – وغيرهم – يميلون إلى مساواة المفهومين. ولهذا، من الضروري تركيز الاهتمام على أسبقية الحرية خاصة حين ننتقل من انتخاب الحكّام إلى حكم البلاد.
وقد تناول المفكر الاقتصادي ف. أ. هاربر هذا الموضوع بعمق في مقاله الشهير “الديمقراطية والحرية“ ضمن كتابه الحرية: طريق استعادتها (1949)، حيث كتب:
“يمكن للحكومة أن تستعبد المواطنين… غير أن الاعتقاد السائد هو أنه من المستحيل أن تُفقَد الحرية تحت نظام ديمقراطي. فالديمقراطية، كما يُقال، تضمن أن إرادة الشعب ستسود، وتلك هي الحرية. طالما أننا نحافظ على الديمقراطية، يمكننا أن نطمئن إلى أن الحرية ستستمر إلى أقصى حد.”
ثم يحذّر هاربر من هذا الوهم قائلًا:
“ربما لا يوجد اعتقاد يشكّل خطرًا على الحرية أكثر من الاعتقاد بأن الديمقراطية، بحد ذاتها، تضمن الحرية… فمن الممكن أن تُفقَد الحرية حتى في ظل نظام ديمقراطي.”
ويضيف:
“إذا انتهكت أي سلطة حكومية حرية الأفراد، فليس ذا أهمية من فعل ذلك أو كيف وصل إلى السلطة.”
فالحرية – كما يوضح هاربر – تعني حق الفرد في أن يفعل ما يشاء، لا أن يخضع لإرادة الآخرين فيما يريدون أن يفعله. وعندما تحل السلطة محل الحرية، الطريقة التي تُكتسب بها السلطة، سواء عبر العملية “الديمقراطية” أو عن طريق الفتح، لا تغيّر من طبيعتها.
ويرى هاربر أن «هذا الوهْم بأن العملية الديمقراطية تعادل الحرية، هو سلاح مثالي لأولئك القلّة الذين قد يرغبون في تدمير الحرية واستبدالها بنوع من المجتمع السلطوي… يمكن انتزاع الحرية من المواطن شيئًا فشيئًا، …، كلما انخدع مزيد من الناس بنفس الوهم.
أما الحق في التصويت، فيراه هاربر مجرد وسيلة للمشاركة في العملية السياسية. لا يضمن أن كل ما يُفعل… سيكون تلقائيًّا في مصلحة الحرية. ويحذر قائلًا:
“من يدافع عن حريته عليه أن يحذر من الادعاء بأن الوصول إلى صناديق الاقتراع، “التي يحصل الناس من خلالها على ما يريدون”, هو الحرية ذاتها. سيكون ذلك كمن يقول إن حرية اختيار الزوجة تتحقق إذا ترك الأمر لتصويت المجتمع، أو أن حرية المعتقد مضمونة إذا فُرض على الناس الدين الذي نال أكثر الأصوات.”
ويتابع:
“وعندما يكتسب بعض المسؤولين السلطة لحرمان الناس من هذه الحرية… فإن أي عملية لاختيار أولئك المسؤولين الذين اتخذوا القرار لا يمكنها أن تلغي فقدانها. «أن يكون المرء قادرًا على مراجعة قرار ما أو طلب مراجعته، وفقًا للتصميم الديمقراطي للحكومة، لا يضمن أن تُحفظ الحرية. إعادة الحرية المفقودة يمكن أن تُطلب وتُرفض مرارًا وتكرارًا… فمجرد السماح للعبد بأن يطلب حريته لا يعني أنه حر.»
وبذلك، يخلص هاربر إلى أن الحرية الحقيقية لا تُقاس بحق التصويت، بل بمدى صون الحكومة لحقوق الأفراد:
« لأن حريتك في هذا النظام هي أنك تنعم بحق أن تُجبر على الخضوع لإملاءات الآخرين، ضد حكمك وضميرك… العكس التام للحرية.», «حتى الحكومة ذات التصميم الأفضل لا تُستخدم إلا حيث، لحماية الحرية، يصبح من الضروري الوصول إلى نمط موحّد في السلوك.» إن اختبار ما إذا كانت الحكومة تدافع عن الحرية أم لا، يكمن في أفعالها, في مضمون قوانينها ولوائحها، وفي مدى انسجامها أو تعارضها مع مبادئ الحرية.”
إن الديمقراطية، في رأي هاربر، ليست سوى أداة. أما الحرية فهي الغاية. «فإذا كانت الديمقراطية تُفهم على أنها حق الشخص في السيطرة على شؤونه الخاصة، فإن أقصى درجات الحرية هي أقصى درجات الديمقراطية. وبالتالي كيفما يسيطر فيه شخص واحد على شؤون آخر، يفقد هذا الآخر حقوقه الديمقراطية بهذا المعنى. وهذا يفسر لماذا توسّع نشاط الحكومة خارج إطار اللّيبرالية يُدمّر هذه الحقوق الديمقراطية… جميع الأقليات تُجرد من حقوقها الديمقراطية لأن رغباتهم تُقصى في العملية. الأقليات تصبح عبيدًا للأكثرية. فالمشاركة في هذه الخطوات التي تمكِّن شخصًا ما من حكم الآخرين لا تضمن الحرية.» ولهذا كتب الاقتصادي الأمريكي غاري إم. غاليس، شارحًا أفكار هاربر:
«إن القرار بناء على معيار التفضيل السائد (تصويت الأكثرية، وغيرها) هو نفس مبدأ: القوة تصنع الحق. وإن كانت “القوة تصنع الحق”، فيجب الاستنتاج أن الحرية كلها قيمة مغلوطة.»
إن الخطر الأكبر على الحرية في عصرنا لا يكمن في الطغاة، بل في الاعتقاد الساذج بأن الديمقراطية وحدها كافية لحمايتها.
لذلك ميّز ف. أ. “بالدي” هاربر، كما فعل من قبل مؤسسي أمريكا، بين الديمقراطية والحرية، مُدركًا أن الديمقراطية قد تُدمر الحرية. وبما أن اتساع نطاق تدخلات الحكومة باسم “إرادة الشعب”، يجعل ممارستنا للديمقراطية تهديدًا مُتزايدًا للحرية، فإن الدفاع عن تلك الحرية يتطلب فهم حدود العزيمة الديمقراطية، وإلا فإن الآلية المُصممة للحفاظ على حرية الأمريكيين الأصلية التي اكتسبوها بشق الأنفس تُهدد بتدميرها.
بقلم غاري إم. غالِس هو أستاذ الاقتصاد في جامعة بيبردين الأمريكية.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.