يرى السياسيون التدخليون والخبراء في السياسات العامة أن المشاريع الحكومية والتأميم هي الحل السحري لمعضلة البطالة. فلو كانت تدخلات الدولة الاقتصادية فعّالة حقاً، لكان هناك وظائف للجميع، ولأصبحت الرفاهية هي القاعدة لا الاستثناء. بل لما انهار جدار برلين، وكذلك الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية كان من الممكن أن تبقى قائمة. لكن، ما حدث هو العكس: ثورة شعبية أسقطت الجدار سنة 1989، وسرعان ما تهاوت الإمبراطورية السوفييتية ومعها حلفاؤها في الكتلة الشرقية. التخطيط الاقتصادي المركزي: وصفة الندرة والمجاعاتدعونا نرَ ماذا يحدث عندما تتدخل الدولة بشكل مباشر في الاقتصاد؟ لنأخذ مثالاً من التجربة الصينية والسوفييتية في الزراعة. في محاولة لزيادة الإنتاج الغذائي، قامت الصين والاتحاد السوفييتي بمصادرة الأراضي الزراعية وتأميمها، وحوّلت الفلاحين إلى مجرد عمّال في الأراضي التي كانوا يملكونها. من مكاتبهم البعيدة، أصدر المخططون الحكوميون في مدن بعيدة أوامرهم بشأن: ماذا يُزرع، وأين، ومتى، وبأي كمية. رغم أنهم لم يكونوا يعرفون الكثير عن المناخ المحلي، أو نوعية التربة، أو احتياجات السوق، أو سلاسل التوزيع.النتائج كانت كارثية. أدى النظام الزراعي الجماعي إلى تقنين الطعام، وطوابير لا تنتهي من الناس بحثاً عن الغذاء، ثم إلى المجاعة والموت. ففي الاتحاد السوفييتي، بين عامي 1931 و1933، مات خمسة ملايين شخص جوعاً. أما في الصين، فقد تسببت الزراعة الجماعية، إلى جانب ظروف جوية قاسية، في أسوأ مجاعة في التاريخ: نحو ثلاثين مليون إنسان قضوا نحبهم بين عامي 1959 و1961. وكلما زاد تدخل الدولة، ازداد بؤس الناس.المعجزات الاقتصادية التدخلية؟غالباً ما يشير التدخليون إلى اليابان وكوريا الجنوبية والصين وهونغ كونغ باعتبارها قصص نجاح ناتجة عن تدخل الدولة. لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. في الصين، كانت معجزة النمو نتيجة لتحرير الاقتصاد وليس تقييده. ففي إصلاحات عام 1978، قام دينغ شياو بينغ بتفكيك الرقابة الشمولية، وأنشأ “مناطق اقتصادية خاصة” (SEZs) قائمة على مبادئ السوق الحرة، حيث تتميز بضرائب منخفضة وتنظيمات واضحة ومحدودة. تلك المناطق أصبحت جزرًا من الحرية الاقتصادية وسط بحر من الشمولية. فانبثقت روح ريادة الأعمال، وتدفقت الاستثمارات الأجنبية.وفي كوريا الجنوبية، كان النمو السريع في عهد بارك تشونغ- نتيجة دعم الدولة لتكتلات صناعية من القطاع الخاص وليس تأميمه. وفّرت الدولة الحوافز التصديرية، واستثمرت في البنية التحتية، وقدمت ضمانات قانونية، مما شجع على تدفق الاستثمارات. اليوم، يُقدّر دخل الفرد في كوريا الجنوبية بأنه أعلى من نظيره في كوريا الشمالية بما يتراوح بين 17 إلى 30 ضعفاً. أما كوريا الشمالية الشمولية التدخلية لا تزال غارقة في الفقر.أما اليابان، فقد كانت نهضتها بعد الحرب قائمة على إصلاحات مؤيدة للسوق الحرة، حيث قلصت الحكومة تدخلاتها وشجعت على المنافسة. هونغ كونغ، التي كانت يوماً مجرد ميناء فقير، تحوّلت إلى مركز مالي عالمي بفضل سياسات عدم التدخل الاقتصادي (laissez-faire)، إلى جانب استثمارات استراتيجية في البنية التحتية والإسكان والتعليم ومكافحة الفساد. إدارتها اتبعت نهجًا مقصودًا يقوم على عدم التدخل المباشر. وهكذا ازدهرت ريادة الأعمال المحلية والدولية، وأصبحت هونغ كونغ تُصنّف الاقتصاد الأكثر حرية في العالم، لتحلّ ناطحات السحاب محل ماضيها القائم على السكن في القوارب.المفارقة أن التدخّليين على حق، فالتدخل الحكومي نجح! لكن النقطة الجوهرية هي أن الأمثلة التي يقدمونها تُظهر تدخلات حكومية لكن من أجل تقليص تدخلها!التكاليف الخفية للتدخلهناك تكاليف خفية لأننا لا نرى الفرص الضائعة بسبب التدخل الحكومي أي الثروة التي لم تُخلق. لا نرى المشاريع التي لم تولد بسبب الضرائب العالية والقيود التنظيمية. لا نرى الوظائف التي لم تُخلق بفعل الحصص على التوظيف والملكية. لا نرى الغذاء الذي لم يُنتج بسبب تهديدات المصادرة للأراضي. ولا نرى المنازل التي لم تُبن لأن العاطلين لا يملكون المال لشرائها.إنهم روّاد الأعمال، لا الدولة، من يخلق الوظائف. حينما يُمنح الأفراد حرية تقرير ما يريدون إنتاجه، وكيفية العمل، وبأي ثمن، فإن الاقتصاد يزدهر. رواد الأعمال يتخذون قراراتهم على أساس معلومات آنية، مثل أسعار السوق وكميات المبيعات، وهذا يمكّنهم من اتخاذ قرارات سريعة والتكيف مع المتغيرات وإذا ما ارتكبوا أخطاء، فإنهم — وليس دافعو الضرائب — من يتحمّلون الكلفة لتصحيحها.تدخل أقل، وظائف أكثرنحن نخدع أنفسنا حين نعتقد أن الحكومة قادرة على خلق وظائف منتجة. كل وظيفة حكومية تعني وظيفة مفقودة في القطاع الخاص. لا أحد يعلم على وجه الدقة عدد ونوع الوظائف التي يحتاجها الاقتصاد. صناع القرار الحكوميون غالباً ما يكونون بعيدين عن الواقع الاقتصادي، يتخذون قرارات مبنية على معلومات ناقصة، وسط بيروقراطية خانقة وقيود سياسية. وعندما تخطئ الحكومة، فإن المواطن هو من يدفع الثمن.لكي نحقق الازدهار للجميع، لا بد من خلق فرص عمل حقيقية منتجة. لكن التركيز الحكومي على حصص الملكية والتوظيف المبنية على العِرق يعطل هذا المسار. كذلك تفعل تهديدات التأميم والمصادرة. لا بد من التخلي عن هذه السياسات. فعندما يتحقق نمو سريع للوظائف، ستتلاشى قضايا العرق والجنس والملكية من تلقاء نفسها. بقلم يوهان بيرمان مخطط حضري وباحث في السياسات العامة، وعضو مشارك في مؤسسة السوق الحرة. لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.https://freemarketfoundation.com/interventionist-realities-when-less-means-more/