إنّ السعي إلى الحقيقة يعتمد على النقاش المفتوح.
في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، طوّر الكيميائي البارع لوي باستور نظرية الجراثيم كمسبب للأمراض. وقد شكّلت هذه النظرية نقلة نوعية في معرفتنا الطبية، ومهّدت الطريق، بعد سنوات، لتطوير المضادات الحيوية وسائر الأدوية المكافحة للأمراض. فلو أنّ الدولة أو الكنيسة قمعت حرية باستور في التعبير، فطيلة كم من السنوات أو العقود كان سيُعاق تقدم المعرفة الطبية؟
كيف تغذّي حرية التعبير التقدّم؟
هناك أمثلة كثيرة مشابهة. فقد طوّر سقراط، من خلال تحدّيه للدولة الأثينية في خضم الحرب البيلوبونيسية، نظريات فلسفية ثورية، ووضع أساس علم الفلسفة الأخلاقية (أو الأخلاقيات) كما نعرفه اليوم. وكوبرنيكوس، ثم غاليليو من بعده، تحدّى نظرية مركزية الأرض للنظام الشمسي التي أيدتها الكنيسة، مستبدلا إياها بنظرية مركزية الشمس. وداروين أحدث ثورة في معرفتنا بعلم الأحياء بنظريته في التطور. لكن هذه النظريات المبتكرة، رغم ما تقدّمه من إثراء للمعرفة وخدمة للحياة العملية، تُواجَه عادةً برفض شديد عند طرحها أول مرة. ويرجع ذلك إلى أنها، بحكم حداثتها، تُشكّل تحديًا لـ”فكر” العصر السائد، وتُثير حفيظة حرّاس العقائد الراسخة.
إنّ صون حقّ كل فرد في التعبير عن رأيه (باستثناء من يحرّض على العنف أو يمارسه) يسمح للأفراد العقلانيين أن يقيّموا بأنفسهم الأفكار، فيميّزوا بين الصحيح والزائف. أما حين يُسحب حق بعض الأفراد أو جميعهم في التعبير بالقانون، فإنّ الحقيقة تُصبح رهنًا بقرار الحكومة) النظام القانوني (التي تفصل بين الحقيقة والزيف بمنطق السلطة، لا بميزان العقل.
ثمن الرقابة
لنتأمّل في عواقب معاداة حرية التعبير. منذ سنوات قليلة، انتهجت الحكومات سياسات صارمة تهدف إلى التحكّم في الرأي. وقد كشفت ما عُرف بـ”ملفات تويتر” كيف أنّ بعض الهيئات الحكومية الأميركية كانت تُوجّه منصات التواصل الاجتماعي بشأن من يُسمح له بالنشر ومن يُمنع، خصوصًا ما يتعلق بالجدل الدائر حول قضايا الجائحة. فكمٌّ كبير من الأطباء والعلماء تم وضعهم تحت الرقابة لمجرد أنّهم خالفوا الرواية الرسمية، ومن بينهم الدكتور مارتن كولدورف، أستاذ علم الأوبئة في كلية الطب بجامعة هارفارد. من الواضح لكل شخص نزيه أن قمع خبراء الطب أثناء أزمة صحية عالمية يُعيق قدرتنا على معرفة الحقيقة، وعلى مكافحة المرض، والنهوض بالصحة العامة.
أنا أستاذ فلسفة، وقد درّست علم المنطق لأربعين عامًا. والمنطق هو الأداة التي تعلّمنا كيفية تقديم الأدلة لدعم استنتاج ما– يعني تقييم الأدلة، وفرز ما له صلة منها وما لا صلة له، ومعرفة مدى كفايتها، وكيفية تجنب المغالطات المنطقية في عرض الأدلة، وكيفية التثبّت من صحة ودقة جميع الوقائع وصحة الاستدلال، وما إلى ذلك. وفي القضايا الشائكة، لا غنى عن المنطق لإثبات الحقيقة، وذلك بتمييزها عن مجرد الرأي.
ولنأخذ مثالًا معاصرًا: الجدل حول التغير المناخي الناتج عن النشاط البشري. فقد اقترح بعض الساسة الأميركيين، كعضو مجلس الشيوخ شيلدون وايتهاوس، من رود آيلاند، وآخرون تجريم من يُنكر “خطر” الاحتباس الحراري الناتج عن أنشطة الإنسان. أما نائب الرئيس الأميركي الأسبق آل غور، فقد ظلّ يُردّد لسنوات أنّ العالم يواجه أزمة مناخية، ولا وقت للنقاش بل فقط للتحرك لاتخاذ إجراءات إصلاحية. حتى لو سلّمنا بأنهّ محقً بشأن احتمال حدوث حالة طوارئ مناخية (وأنا لا أوافق على ذلك)، فهو مخطئ تمامًا في استنتاجه بالدعوة لحظر النقاش. فالحقيقة تفرض أن تُعرض الأدلة من جميع الأطراف، وأن يخضع كلّ منها لتحليل تحليل وتقييم عقلاني نزيه، ليحكم الأفراد بصرامة عقولهم أين تكمن الغلبة في الأدلة، ومن الطرف الأقوى في الحجة.
إن تجريم أو قمع الآراء المختلفة في القضايا الخلافية لا يُعطّل فقط النقاش، بل يضع عقبات خطيرة أمام الوصول إلى الحقيقة. ومن هنا ينبغي التشديد على نقطتين متلازمتين:
- حرية التعبير لا يجوز المساس بها.
- حرية البحث والنقاش المفتوح يجب دعمها وصيانتها.
الحقيقة، النقاش، وازدهار الإنسان
حرية التعبير تعني حرية التفكير. وهي ليست ترفًا اجتماعيًا، بل قضية حياة أو موت، لأنّ مبدأ السعي الحر وراء الأدلة والنقاش المفتوح هي أدوات لا غنى عنها لإثبات الحقيقة. ومعرفة الحقيقة في قضايا مصيرية تمسّ حياتنا هي الخطوة الأولى للنهوض بحياة الإنسان.
الذين يثقون بأنّ لديهم أدلة تدعم آرائهم، لا يخشون حرية التعبير، لأنهم يعلمون أنهم، في ساحة الحوار الحرّ، سينتصرون بالحجة. وحتى إن تبيّن خطؤهم، فإنهم، إن كانوا صادقين، سيتعلّمون شيئًا جديدًا. فمن هم الذين يعادون النقاش المفتوح في القضايا الجدلية؟ هم أولئك الذين يتبنّون آراءهم بدوافع عاطفية وليس على أسس إثباتية، ويُدركون في قرارة أنفسهم أن خصومهم أكثر منعة في الحجج، فيسعون جاهدين إلى إسكاتهم لتفادي سماع الحجة المعارضة.
إنّ الدفاع عن حرية التعبير هو دفاع عن الحقيقة، وعن التقدّم، وعن كرامة الإنسان وبالتالي الارتقاء بالحياة البشرية. أما من يعادي حرية التعبير، فهو في حقيقة الأمر يعادي الحقيقة والإنسان معًا.
بقلم أندرو برنشتاين حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة مدينة نيويورك.
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.