“الملاعب بُنيت، ولكن أين هي المستشفيات؟» — بهذا الشعار الذي انتشر عبر تطبيقات «تيك توك» و«واتساب»، اندلعت في نهاية شهر شتنبر أكبر موجة احتجاجات شبابية يشهدها المغرب منذ سنوات. ففي الرباط والدار البيضاء ومراكش، خرجت حشودٌ من الشباب في مظاهراتٍ سرعان ما تحولت إلى مواجهاتٍ مع الشرطة، تعبيرًا عن غضبٍ عارمٍ من تخصيص مليارات الدراهم من المال العام لاحتضان كأس الأمم الإفريقية 2025 وكأس العالم 2030 (بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال)، بينما تبقى المستشفيات والمدارس في حالة تدهورٍ مزمن. وقد فجّرت المأساة التي شهدتها مدينة أكادير، حين توفيت امرأة أثناء الولادة بسبب قصورٍ في الرعاية الصحية، موجة الغضب وحوّلته إلى حراكٍ واسع. وقد أوقفت الشرطة العشرات من المحتجين، قبل أن يُفرَج عن معظمهم لاحقاً.
من جانبهم، يدافع المسؤولون عن هذه المشاريع باعتبارها محركاتٍ للنمو الاقتصادي من خلال توفير فرص العمل وتحسين البنية التحتية. غير أن المنطق الكامن وراء هذا التبرير يكشف الكثير: فالحكومات ذات النزعة السلطوية تميل دائمًا إلى تفضيل المظاهر البراقة على حساب رفاه المواطنين، فتبني الملاعب والمطارات وتنظم الفعاليات الكبرى التي تُعرض على شاشات العالم، بينما تُهمَل حاجات المواطن اليومية — كالصحة والتعليم والسكن اللائق — لأنها بلا بريقٍ سياسي ولا مكسبٍ دعائي.
اليوم، جيل الشباب المغربي يواجه هذا الخلل مباشرة، وحراكه يعكس حقيقةً أعمق عن أنظمة الحكم السلطوية: إن المال العام يُوجَّه غالبًا نحو ما يُرى بالعين، لا نحو ما هو ضروري ويُصلح الحياة. وهذا التوجه ليس مغربيًا فحسب، بل عالميٌّ أيضًا. فـأولمبياد سوتشي في روسيا تحوّلت إلى رمزٍ للهدر والفساد، بينما انهارت خدمات الرعاية الصحية في الأقاليم. وكأس العالم في البرازيل خلّف ملاعب ضخمة خاوية فيما كان المعلمون في إضراباتٍ للمطالبة بتحسين أجورهم. أما قطر فقد بنت ملاعب مبهرة بكلفةٍ إنسانيةٍ باهظة وصلت إلى حدّ اتهاماتٍ بالاستعباد، لأن البهرجة البصرية أهمّ من الكرامة البشرية. المغرب اليوم يسلك الطريق ذاته، مقامرًا على أن بريق كأس العالم سيغطي على غضب جيلٍ كامل.
ومع ذلك، فإن تاريخ المغرب يدعو إلى الحذر. ففي عام 2011، خلال الربيع العربي، خرجت حركة «20 فبراير» مطالبةً بالإصلاح والكرامة. وقد استجاب القصر الملكي آنذاك بما يكفي لامتصاص الغضب — بإصلاحاتٍ دستورية وانتخاباتٍ مبكرة — لتهدئة الشارع مع الحفاظ على سلطته واستمرار الوضع الدستوري القائم. في وقتٍ لاحق، بين عامي 2016 و2018، اندلعت احتجاجات «حراك الريف» إثر وفاة بائع سمك في الحسيمة، وقد قوبلت بحملة اعتقالات واسعة وأحكامٍ طويلة بالسجن، أدانتها منظمات حقوقية كمنظمة العفو الدولية. وفي عام 2022، وثّقت «هيومن رايتس ووتش» ما سمّته “دليل القمع “في المغرب: من تشويه السمعة، إلى المحاكمات غير العادلة، إلى الضغط على عائلات النشطاء — وهي الأساليب ذاتها التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم.
لكن ما يميز الحراك الجديد اليوم هو شكله لا مضمونه. فهو رقمي، لامركزي، بلا قيادة واضحة، ويتحرك تحت أسماء مثل “جيل زد 212” (نسبة إلى الرمز الهاتفي المغربي +212) و«أصوات شباب المغرب». ويصف أعضاؤه أنفسهم بأنهم «موجة جديدة من النشاط الشبابي في المغرب تطالب بالتغيير «. وبذلك، يفقد القمع التقليدي فعاليته: فاعتقال القادة لا يشلّ الحركة لأنها بلا رأس،كما أن الأحزاب التقليدية، التي يُنظر إليها على أنها «داخل النظام»، غير قادرة على احتواء الحركة أو استغلالها لمصالحها الخاصة.
هذه الظاهرة تُذكّر ببدايات الربيع العربي، خصوصًا في تونس، حيث أشعل انتحار محمد البوعزيزي عام 2010 ثورةً رقمية انتشرت عبر «فيسبوك» و«تويتر»، وأطاحت بنظامٍ راسخٍ من خلال شبكاتٍ لامركزية من الغضب الشعبي. الأنظمة الاستبدادية، التي اعتادت على تفكيك الهياكل الهرمية، وجدت صعوبة أكبر في احتواء موجات الغضب اللامركزية. صحيحٌ أن التجربة الديمقراطية التونسية تعثّرت لاحقًا، كما فشلت موجات الغضب التي عمّت الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل تلك التي شهدتها مصر، انتهت إلى الفشل، غير أن الدرس لا يزال قائمًا: الاحتجاجات المدعومة بوسائل التواصل الاجتماعي قادرة على زعزعة حتى أعتى الأنظمة السلطوية.
ويبدو أن المؤسسة الملكية المغربية تدرك هذا جيدًا. وهي الآن أمام خياراتٍ صعبة: هل تلجأ إلى القمع المباشر عبر قوانين «التجمهر غير القانوني» و«إهانة المسؤولين»؟ أم إلى سياسة تنازلات محسوبة تُهدئ الشارع دون المساس بجوهر السلطة؟ أم إلى مزيجٍ محسوبٍ من الاثنين؟ إذ يمكن للنيابة العامة أن تُصعّد الاتهامات بموجب قوانين «التجمهر غير القانوني» أو «إهانة المسؤولين»، مما قد يؤدي إلى إخماد موجة التعبئة الشعبية المقبلة.
قد يخمد الحراك إن فشل منظموه — القلة المتبقية منهم — في الحفاظ على الزخم خارج عطلة نهاية الأسبوع، أو قد يتمكّن القصر من امتصاص الغضب بإعلان استثماراتٍ اجتماعية موازية لمشاريع الملاعب، فيحوّل السردية من سياسة «المظاهر» إلى سياسة «التوازن». لكن في جوهر الأمر، القضية أعمق من تكتيكٍ سياسي. إنها مسألة بنيوية تمسّ منطق الحكم السلطوي ذاته: فالنظام الاستبدادي يُفضّل المشهد على الجوهر، لأن المظاهر تمنحه شرعيةً دولية ورمزيةً داخلية. أما المطالبة بتوجيه المال العام نحو المدارس والمستشفيات فهي تحدٍ مباشر لذلك المنطق.
لهذا السبب، فإن الشباب المغربي، وإن لم يطالبوا بإسقاط النظام، يطرحون تحديًا جذريًا لطبيعة الحكم القائمة.
قد يعوِّل القصر على أن تتلاشى الاحتجاجات كما في الماضي، غير أن جيلًا وُلد في ظل 2011، متصل رقميًا، ومطلع على العالم، قد لا يُسكت بسهولة. فإن استمر المغرب في بناء الملاعب وتجاهل المستشفيات، فقد يكتشف أن إرث كأس العالم لن يكون مجدًا، بل غضبًا شعبيًا.
والدرس المستفاد من تونس واضح: الاحتجاجات اللامركزية بلا قيادة قد تتجاوز القمع، ومتى انطلقت شرارتها، يصعب على الحكّام إخمادها كما يتصورون.
بقلم الدكتور جيك سكوت – باحث في النظرية السياسية ومتخصص في الشعبوية وعلاقتها بالدستورية السياسية
لمطالعة النسخة الأصلية انقر هنا.
https://fee.org/articles/moroccos-world-cup-gamble/
