• يوليو 1, 2025

السمات العامة للمجتمع القبلي التقليدي العربي

تحتاج بنية مجتمعاتنا العربية إلى كثير من أعمال الحفر الفكري واتباع مختلف مناهج وأدوات النقد المعرفي الحديث لتفكيك منظومة الفكر العربي والإسلامي الجامدة والمتخشبة المسيطرة عليه، والتي لا تزال واقفة زمنياً وعقلياً عند حدود وعتبات القرون القديمة، فيما يعرف بتراث أهل السلف.

تحتاج بنية مجتمعاتنا العربية إلى كثير من أعمال الحفر الفكري واتباع مختلف مناهج وأدوات النقد المعرفي الحديث لتفكيك منظومة الفكر العربي والإسلامي الجامدة والمتخشبة المسيطرة عليه، والتي لا تزال واقفة زمنياً وعقلياً عند حدود وعتبات القرون القديمة، فيما يعرف بتراث أهل السلف، وفتاوى ابن تيمية، وعقائد الغزالي وغيره، ومختلف أنواع الجداليات القيمة لأهل الكلام والوعظ المسجدي العتيق.

وهذه الحاجة الماسة لمزيد من النقد الفكري تنبع من الأهمية القصوى لضرورة انخراط تلك المجتمعات المهجوسة والمسكون بقيم وأفكار الماضي التليد، في قيم العصر ومناخات الحاثة الفكرية والعلمية والسياسية وغيرها.. والتي تقوم على العقلانية والحرية والفردية وحق الناس في تحديد مصائرها ومستقبلياتها. من هنا نحن ننطلق لتحديد أهم تلك الأمراض والبنى الفكرية المستعصية التي لا تزال تفعل فعلها وتستحكم بوجودها على مجتمعاتنا العربية، وتمنعها من الانفلات من عقال التخلف والانقسام. وهذه السمات والطبائع العامة للمجتمع القبلي العربي، هي:

أولاً- الجمود وعدم القدرة على مواكبة الحياة والعصر والتطورات الزمانية والمكانية.. أي أنها لا تؤمن بسنن التطور ونواميس التغيير الكوني، بل تعتقد بمجموعة من المسلمات الفكرية والاجتماعية العامة() (يقينيات بديهية) تعتبرها الميزان والقانون الناظم للفكر والعمل بحيث يحكم –على ضوء (ومن خلال) ذلك القانون اليقيني- بصحة أو بطلان المعارف والمبادئ كلها. وعندما تنطلق الأحداث والمتغيرات الخطيرة في واقع الأمة تكون استجابتها –على هذه الأوضاع القلقة- سلبية منفعلة غير فاعلة، حيث يتفرج أبناؤها- الذين انساقوا وراء مشاعرهم القبلية (وإن ارتدوا رداء الحضارة والمدنية)– على الأحداث الجسام، ولا يجتهدون للتأثير على مسارها أو محاولة تغيير أو حرف بعض توجهاتها في هذا الموقع أو ذاك.. ويلاحظ هنا -كنتيجة للإيمان المسبق بجملة قواعد ونظم فكرية ثابتة لا تتغير()– سيطرة النمط التفكيري السكوني –إذا صح التعبير- على أي تحرك أو انطلاقة فكرية، أو اجتماعية يدخل فيها عناصر المجتمع القبلي، باعتبار أن مجموعة المفاهيم الغالبة والسائدة فيما بينهم –والتي يحرص الجميع على ديمومتها واستمراريتها في الأخلاف فيما بعد- تمثل لديهم وعياً كونياً شاملاً ومستوعباً لكل تفاصيل ودقائق حركة الوجود والحياة، يشعرهم فطرياً بأن حياتهم الحالية (التي يرتبط بها وجودهم ووعيهم للوقائع الداخلية والخارجية) هي الأفضل، والأحسن، والأكثر قدرة على إشعارهم بحريتهم وانطلاقتهم وانفلاتهم من قيود الزمان والمكان. لذلك نرى أن لدى البدوي –في مقابل السنن والمتغيرات- تصوره الخاص المختلف للأبعاد (الماضي، تقاليد الأجداد). ومن هنا جاء تمسكه بالعادات والتقاليد والأنساب (التي هي ديمومة زمانية)().

طبعاً نلاحظ هنا -كنتيجة لوجود ثوابت معينة في واقع مجتمع القبيلة- أن التوازنات بين الأطراف كانت تتطلب دائماً تحقيق التوافق بالإجماع الكامل بين كل عصائبها نظراً لغياب السلطة المركزية القوية، فإن افتقد هذا التوافق ولم يتأمن الإجماع الكامل، ضاق مجال الحوار والحلول الوسط، واتسعت دائرة التنابذ والافتراق، وبدأ تشرذم القبيلة إلى عشائر متناحرة ومتفرقة.. وهذا ما نجده سائداً وراسخاً، للأسف، في واقعنا العربي السياسي (القبلي) الحالي، حيث يلاحظ أن المنظمات الرسمية، والأحزاب السياسية العربية المعاصرة ما زالت تسير أو تسير –كما نتابعها في أدبياتها السياسية– بالإجماع.. والأمر نفسه ينطبق ،تماماً، على المجالس والمنظمات والهيئات العربية الأخرى كالجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي..الخ.

ثانياً- يواجه المجتمع القبلي الرافض لسنة التغيير أفكار ورموز ودعاة هذا التغيير بكل قواه وعصائبه. لأن التغيير والتطور يمس أصل وجوده وتكوينه التقليدي المحافظ المتوارث عن الآباء والذي ارتضته القبيلة ديناً لها في حجم الحياة كلها. ولذلك يكتفي أبناء هذا المجتمع بالفكر الذي ينقل إليهم من الأجداد الأولين.. وبالتالي فهو الأصل وما عداه من فكر جديد فهو موضع مواجهة ورفض..لأن المجتمع القبلي العربي -وبحكم الألفة والعادة والفراغ والسكون- وجد أفراده سنةً وناموساً قائماً ركنوا إليها، واعتادواها.. فلم يسمحوا لأنفسهم بتجاوزها أو مجرد التفكير بتغييرها. ولهذا رأينا كيف كانت كل الدعوات والأفكار التجديدية –على مر التاريخ- تواجه وتعارض بحدة وقساوة من قبل المجتمعات القبلية ذات الفكر المتخشب.

ثالثاً- من سمات المجتمع القبلي المغلق أيضاً، عمله الدائم على تهميش الفئات المثقفة، والعالمة. وتطفيش الخبرات والكوادر النوعية، واستبعادها من ساحة التأثير والإبداع الثقافي والعلمي بالرغم من كونها هي الوحيدة المؤهلة والقادرة على الارتقاء بواقع المجتمع، والسير به نحو مواقع أكثر تطوراً وازدهاراً في التفكير والعمل على المستوى الحضاري والعلمي، والتصدي الدائم المخلص لتحقيق المشروع الحضاري والثقافي للأمة.

وبالمقابل يعمد -دعاة ورموز العصبية القبلية المتحكمين بمفاصل القرار الأعلى- إلى ترفيع أبناء الأسر المالكة والحاكمة (ومن نفس العشيرة) إلى المناصب القيادية في “الدولة-القبيلة”، بالنظر إلى تكاثرهم وحدة صراعهم وتنافسهم، أو بالأحرى تكالبهم المستميت على احتلال المناصب العليا والوظائف الكبرى، وتوزيع المكاسب والمغانم فيها. ويتم ذلك ،طبعاً، على حساب تراجع وانحسار الأسماء الكبيرة من المفكرين والمثقفين وأصحاب الكفاءات والقدرات الحقيقية المختصين في مجالات العمل المختلفة. ويشكل هذا النوع من القسر والظلم الاجتماعي والعلمي –إذا صح التعبير- الذي يفضي إلى إحداث اختلال بالغ في موازين المسؤوليات، وتوزيع الأدوار والمهام اللازمة للنهوض بالمجتمع، يشكل عامل يأس وإحباط ونفور لدى النخب المفكرة والمتعلمة، والطبقات الشعبية الوسطى في البلاد.. إذ يولد لديها ردود أفعال سلبية إزاء المنحى الانحداري الخطير الذي بدأت تسير عليه البلاد في كل قطاعاتها ومؤسساتها، قد تنحو –هذه الردود- منحى الاستنكاف عن المشاركة الفعالة في تطوير الواقع، وبناء المجتمع ونهوض الدولة، وتحقيق استقلالها، وإنجاز مشاريعها.. باعتبار أنه لم يتم تقدير وعي وفكر وإبداع تلك النخب العلمية، وفتح المجال أمامها لتعبر عن ذاتها العلمية الكفوءة. لذلك تجد أن أفضل طريق وأقصر سبيل لاستمرار إبداعها والتعبير عن تفوقها العلمي يكون في مغادرة البلد، والانخراط في العمل لدى البلدان الأخرى التي تحترم العلم والعلماء، وتبارك إنجازات المفكرين، وتفسح لهم كل المجالات للعمل العلمي المنتج والفاعل. وهذه الظاهرة في الواقع تتزامن مع تراجع كبير في الحريات العامة في مجتمعاتنا، وضعف حقوق الإنسان فيها في عصر العولمة والديمقراطية والحرية والإعلام الفضائي السريع.

رابعاً- الإيمان بالجبرية التاريخية، وأن حركة التاريخ البشري قد توقفت وانتهت عند هذا النوع من المعرفة أو الفكر السائد لدى المجتمع القبلي.. يندرج هذا الأمر طبعاً في إطار سعي قيادات هذا المجتمع إلى فرض أيديولوجية “خلافة الله”، وتشجيع مبدأ “الجبرية” الذي يعتبر أن ما يحدث هو أمر مفروض ومقرر مسبقاً من الله تعالى خيراً أم شراً.. حقاً كان أم باطلاً، خيراً كان أم شراً.

    وقد وجدنا في تاريخنا العربي الكثير من النماذج الدالة على ذلك.. حتى باتت الجبرية مذهباً كلامياً واسع الانتشار في أوساط كثيرة من عالمنا الإسلامي حتى الآن.

وكان زياد بن أبي سفيان أول من شجع هذا النهج المخالف لسنة التطور (قبل أن يكون مخالفاً ومتناقضاً مع مفردات ومعاني وتعابير القرآن) حيث سعى إلى تكريس سياسة “ظل الله في الأرض” و”خلافة الله”..الخ، ليوهم الناس بأنه يحكم بإرادة الله، ويتصرف بمشيئته.. فأحاط خلافته (هو وخلفاؤه اللاحقون) بهالة من القداسة، وأسبغوا على أنفسهم ألقاب دينية فضفاضة تعبر بشكل سافر عن عقلية الجبر التاريخي. لقد كان معاوية -في نظر أصحابه ومريديه- “خليفة الله في الأرض” و”الصادق” و “الأمين” و”المأمون”. وكان ابنه (يزيد) “إمام المسلمين!” وكان عبد الله بن مروان “أمين الله” و”إمام الإسلام”.

يقول زياد هذا في خطبته المسماة “بالبتراء؟!” –التي صرح فيها أن الله اختارهم (أي الأمويون) للخلافة، وأنهم يحكمون بقضائه، ويعملون بإذنه: “يا أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادةنسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خول لنافلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا”()..أما معاوية فله باع طويل في توطيد وترسيخ الحكم الوراثي (الإلهي).. حيث يقول: “نحن خلفاء بقضاء الله وقدره”(). “الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت لي، وما تركته للناس فبالفضل مني”().. وفي مجال زمني آخر (عصر العباسيين) وقف المنصور (أحد أمراء المؤمنين العباسيين؟!) يوم عرفة خطيباً يحدد برنامجه السياسي   (الذي يبدو من خلاله، وكأنه لا يخاطب بشراً من روح وأحاسيس ومشاعر ومسؤولية وخيارات…إلخ بل يخاطب قطيعاً من الماشية).. قال: “أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على مالهأعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنهفقد جعلني الله قفلاً، إذا شاء يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني”().

خامساً- لا يؤمن المجتمع القبلي بالمحاسبة أو المساءلة أو النقد كمعيار للتطور والبناء والبقاء النوعي. ولا يخضع ساسته وقادته ورموزه للرقابة أو النقد أو المسائلة الشعبية أمام برلمانات منتخبة طوعاً وديمقراطياً. لأن هؤلاء (الساسة والقادة!) عندما يقتربون إلى درجة تأليه أنفسهم، فإن ذلك يعبر عن (عصمتهم؟!) تجاه الآخرين. لذلك تراهم يرهبون الناس عبر الضغط عليهم بذهنية الجبرية، بالتعالي والتعاظم والتكبر. ويذلونهم بالقهر والتسلط والقوة وسلب المال حتى لا يجد (الناس) مفراً للتملق والتزلف لهم().. ولعلنا لا نستغرب كثيراً قول أحد خلفاء الأمويين ” الوليد بن عبد الملك”، لدى استفساره ،باستفهام استنكاري، عن إمكانية حساب الخليفة وتوجيه اللوم له: ” أيمكن للخليفة أن يحاسب؟!”.. وكأن الخليفة مخلوق من طينة “معصومة” غير بشرية. ويبدو أن الوليد قد ورث هذا الطبع عن أبيه (عبد الملك بن مروان) الذي كان يدير (ويمارس) دفة  الحكم السياسي والاجتماعي بمزاجية نفسية معقدة، ويرفض بالمطلق الكلمة الناقدة أو الموقف الناقد.. جاء في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 223): “عندما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة صعد المنبر ليلقي الخطبة الدستورية التي توضح سياسته القادمة، جاء فيها: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقة، ثم نزل..؟!”.. لاحظ كيف يتحكم صاحب ذهنية “الجبر التاريخي” في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه ومزاجه لا بشريعتهم، ويتوعد بقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، بكل برودة أعصابه، فقط لأن صاحبها قد يفكر في نقد “الحاكم بأمر الله!؟” ومحاسبته.. فليس للناس بحسب ذلك أي رأي أو مشورة. والسلطة يتم رسمها وتحديدها فقط من الخليفة (ظل الله) وعلى الناس أن تستسلم له ولإخوانه (أمراء المؤمنين!)، وتطيعهم بدون وعي أو إرادة، أو حتى مجرد التفكير بمحاسبتهم، وفرض رقابة على تصرفاتهم. لأنهم –وكما يزعمون- يحكمون باسم الله من خلال السلطة الدينية، أو غيرها من السلطات الوضعية الأخرى (ولا فرق في ذلك). فالخليفة ” القائم بالأمر” هو مصدر كل قوة، ومنبع كل طاقة متفجرة في الحركة الاجتماعية العامة، ومرجع لكل الأوامر والسلطات المتعلقة بأحوال العباد وأمور البلاد، لا يجوز لومه أو مساءلته. لأنه –كما ذكرنا- المصداق الخارجي لسلطة الله في الأرض. ولهذا اعتقد الناس في العصر العباسي –وربما لا يزال هذا الاعتقاد سائداً في كثير من البلدان (نظراً للضغط النفسي والسياسي والإعلامي والأمني الكبير الذي مارسه ولا يزال يمارسه الوزير والسياف بين مستويي القداسة والرهبة)- أقول: لهذا اعتقد الناس أن الخليفة إذا قتل اختل نظام العالم.. احتجبت الشمس،وامتنع المطر، وجف النبات.

سادساً- يتفرد المجتمع القبلي عربياً أم غير عربي -عن غيره من المجتمعات- بأنه لايوجد فيه رجل كبير أو شخصية محترمة علمية أو ثقافية أو سياسية سوى “الرب الأعلى” أو “السيد الأوحد” المطاع.. فهو وحده رجل المرحلة الاستثنائي، وسفينة النجاة، وصاحب المشروع الإنقاذي.. وبشخصيته الكريمة تختزل مؤسسات وبنى المجتمع والدولة والأمة كلها. أما باقي الناس والأفراد فهم –بمعنى أو بآخر- مجرد أرقام لا قيمة لها، وهم ليسوا أكثر من عبيد عند هذا الإله الأرضي والسيد الأعلى الذي يحاربهم بلقمة عيشهم، كي يبقوا على قدر كبير من الولاء الأعمى والانقياد المطلق لسلطته وحكمه المتجبر.. بحيث يمكنه أن يسجن أي شخص أو يدس له السم في طعامه، أو يضربه أو يجلد هو ينفيه، أو يقتله.. فلا كرامة ولا اعتبار ولا قيمة –في هكذا مجتمعات- إلا للذات العلية وحدها التي تستطيع أن تعصف بمن سبق لهم أن ساعدوها وعاونوها، أو من مدحوها تماماً كما عصف المنصور العباسي بأبي مسلم الخرساني بعد أن مكن العباسيين من تثبيت ملكهم().

سابعاً- تهيمن على مواقع المجتمع القبلي العربي سلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المتخلفة الموروثة منذ العهود القديمة والتي لم تعد قادرة بحكم عطالتها الذاتية على العيش والتطور مع تقادم الأيام والعصور والأزمان، وقد أضحت تلك القيم القديمة مع مرور الزمن ديناً قائماً لوحده. أصبح له دعاته ومناصروه في كل حدب وصوب.. ولعل من أبرز هؤلاء هم رموز ودعاة السلطة الدينية المزيفة (وعاظ السلاطين) المتحالفة مع مراكز السلطة السياسية والأمنية من أجل الوصول إلى المصالح الذاتية المشتركة التي لا يمكن أن تتسع دوائرها إلا من خلال الإبقاء على حالة التخلف الفكري والنفسي، وتكريس واقع التبعية والاستلحاق التي يرزح تحته أبناء المجتمع كلهم.

ثامناًً- تتحكم بوجود المجتمع القبلي –على صعيد أساليب التعامل مع الأهداف والغايات الفردية والجماعية (وطنياً وقومياً)– مجموعة من الشعارات الوهمية الزائفة التي تراكمت عبر تاريخ طويل من سوء وعقم الممارسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبدلاً من أن تتحول (تلك الشعارات) بأفكارها ومبادئها الخاصة والعامة إلى أرض صالحة للابتكارات والإنجازات الرفيعة التي تعود بالفائدة على الوطن والمواطن، أصبحت خالية من مضمونها ومفرغة من محتوياتها الداخلية.. بل أكثر من ذلك: لقد أضحت عبئاً ثقيلاً مزعجاً يلقي بظلاله السوداء على كاهل منتجيها والدعاة إليها الذين كانوا أول من اخترقوها، وأسقطوها وفق مبدأ (حاميها حراميها).. بحيث أصبحت غير قادرة على تحقيق ذاتها، والإيفاء بالتزاماتها تجاه الجماهير الواسعة التي انخرطت بقوة في الممارسة السياسية وحتى العسكرية (غير الواعية)، وقدمت الكثير من التضحيات لتحقيق تلك الأهداف التي استنزف –أصحابها ومنظروها- مواهب الناس، وسرقوا الدولة وموارد بذريعة العمل على تجسيد تلك الشعارات.

لقد رفع هؤلاء شعارات التقدم والتنمية ولافتات التحديث وحب الوطن وغيرها من العناوين والشعارات الذهبية (شديدة اللمعان) على سبيل التعصب والتحزب الأعمى، أو على سبيل الشحن والتعبئة النفسية الحماسية القاهرة، فما كان من أوطاننا وطوائفنا وأحزابنا وملاعبنا إلا أن تحولت إلى معسكرات مغلقة أو ألغام تنتظر ساعة الانفجار.

كما أنه سرت “العصبية القبلية” في كل أوصال النظام القبلي التقليدي، وباتت الآن خاصية أساسية من خصائص تكوين الدول العربية والإسلامية في مستوييها الديني والقومي على السواء. والواقع العربي يقول بأنه بدلاً من أن تنتفي وتتحلل بنية العصبية وتتفكك قواها بظهور الإسلام، اندمجت في داخل عرى واستحكامات الإسلام التاريخي، فأصبح المجتمع الإسلامي حاوياً على (ومنتجاً لـ)  مجموعة من التكوينات العشائرية والقبلية والطائفية التي اعتنقت الإسلام. ولكن مع مرور الأيام ارتقى المجتمع نسبياً بعرفه القبلي إلى مستوى القانون والنظام الشرعي الإسلامي. وهذا يعني –بطبيعة الحال- هيمنة الدولة (وسيطرتها) عليه.. واعتبارها هي الضامن الفعلي للمشاركة في المجتمع، كما يعني –من جانب آخر- تخلخل العصائب والروابط القبلية قليلاً في مقابل قوة المبادئ والقيم الإسلامية التي تؤكد على المساواة والعدل والمحبة والإخاء.

Read Previous

لماذا تخلى “اقتصاد التنمية” عن الفقراء؟

Read Next

أعجوبة التعاون.. كيف ينبثق التعاون دون الحاجة إلى جهة تخطيط واعية